شعار قسم مدونات

ويأتِي الفُقد بِما لَا يشتهِي قلبُ المُحبِّ

BLOGS الفقد

إذا عُرف أصل الشّعور سَهلت مهمّة القلب في قراءة بواعثِه.. القلبُ.. الذي يتمّكن دومًا لما يهوى ولا يبرَح موضِعه من الإحساس.. القلبُ.. الذي حاز من اسمه نصيب، متقلّبًا بفعل ذلك الهَوى.. حديثه اللّين والعَاطفة.. مهما عَصفت به تبعات الشّعور الذي انتصر له. فكُلّما كان القلب محبًّا صافيًا.. أجازَ للشّعور تملّكًا أعظم منه.. ذَلك أنّ بوصلة الشّعور صفاءَ النّفس.

وإذا ما بحثْتَ وراء شُعور الفقد.. وتتبّعت بواعِثه.. وقرأتَ ما وقَع في القَلب مِنه وجدتَ أنّ الفقد نقص يعترِي الفاقد.. وشقٌّ في القلب يُوغل في العُمق لا يُلائمه البَوح الطَّويل ولا الكتمَان.. يُخدر ألمَه يقينٌ بحكمةِ الله في الفقد، ويَطمِر مَحلّه توافدُ الأيّام والسّنين.. ذلك النّقص تأنّ له أعماق الرُّوح فيرتدّ صَداه مدويًّا.. كما لو كان الأذى فيه ماديًّا بحقّ.. فيُناقض معنويّة الرّوح ومعنويّة الأَذى!

فيأبى الفُراق بكلّ نقصه إلا الهيمنة على كلّ شُعور آخر.. حتّى يسقط كلّ الشُّعور عَداه.. مستوفيًا بذلك شُروط الإقامةِ الجبريّة في القلبِ.. مُتربعًا على عرشهِ.. متمكنًا من دقّاته التي تتسارع كرقّاصِ سَاعةٍ.. الدقيقة فيها كسنةٍ مما تَعدُّون.. ليلُها مَد، ونهارُها جَزْر.. وما انفكّا يتعَاتبان! ولنا في الفُراق عِظات.. والعِظات الأجدى تلكَ التي يثُبّتُ بها الفُؤاد ويَصمُد أمام فجيعته ووجيعَته، إن استطال العُمر أو قصُر..

فهذا فُراق يخلع القَلب من مواضعهِ، اشتدّت فيه لوعةُ الطّرفين، ذاك يُوسف وقلبُ أبيه يعقوب.. فتأبى السّنين على طُولها، في قصر العَزيز بتَرفها، وفي السِّجن بظُلمها، في سبعٍ سِمان ببذخها، وفي أُخر عجافٍ بتقشّفها.. تأبى أن تُطفئ جذوة المُشتاق.. يقول قلب المُحبّ يعقوب.. الذي حرّقه الشّوق.. فدَاب في خُلده كل الشّعور عدا يُوسف، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لأنّ قلبه لم يستسغْ بعد مَعنى اليأس.. فلفظَه بعيدًا كخيارٍ لم يُطرحْ بَعد.. 

ليسَ من الحكمةِ -التي تُغالب الهَوى دومًا- أن يتعلّق القَلب بأشرعةِ الرّاحلين.. ولا أن يقف المُشتاق على أعتابِ من أوصَدوا أبوابَ وصلِهم في وجههِ عُنوةً، وأفلُوا عندما كان البقاء لِزامًا

فتأتي الرّيح مُحمّلة بريحِ يُوسف.. مُنعشةً كأنّما ظَفُرت ذرّاتها بمسكِ من الفردوسِ.. ريحًا مُنعشةً أيقظت رُوحه الخَامدة من فَرط الحُزن.. فامتدّت شاسعةً كهضابِ فلسطين.. وقَبست من نُورها ما أضاء ظُلمة ليلهِ فارتدّ بصيرًا.. وفُراق تشبّث فيه قلب مُتعلّق.. بقلبٍ زاهدٍ فِيه.. كان المُتعلّق نوحًا الأب الذي تَضاعف في قَلبه شُعور الأبوّة.. فلم يظلمْ منه أحدًا.. وكانت البَنُون.. قَوم.. وابنٌ.. فظلموا من نُوح كلّ شَيء.. حتّى إذا جاء أمرُ الله فِيهم، جاب قلبُ المحبّ نُوحًا السّاحل والبَحر وإن تشابها حِينها.. باحثًا عن فلذة كبِده مخترقًا طُوفان الماء.. ذلك أن طُوفانَ مشاعرِ الأب طغا.. حتى وجدَه حيثُ أذاه.. فيستعطِفُه.. ويستعصِم.. يحولُ بينهُما المَوج.. ويُكتب مشهدُ النّهاية.. لكن وراءَ الكواليس وما بَعد النّهاية، تكمُن التتمّة.. فيما بَدى حزن المُتعلّق من قلبٍ لا كفّ عن صده.. فقلبُ ابنه استقسَت المشاعِر العَيش فيه، خاوٍ على عُروشه.. حتّى من بديهيات الإحسَاسِ ومُسلّماتِ المَشاعر.

وفُراق يَعكس آيته السّابقة جُملةً وتفصيلًا.. لينقلِب قلبُ الابن حانيًا عطُوفا على قلبِ أبيه، وقلب الأبِ مُتنكِّر له، غير مُعترفٍ بفيضِ الشّعور اتجاه ابنٍ مِن صُلبه.. لا يستسلِم أحدُهما عن مُبتغاه.. فيُعبِّد الابن إبراهيم طَريق أبِيه آزر نورًا وحقًّا، ويُوقد آزر نارًا تُحرِّق ابنه جهلًا وضلالًا آخر الطريق.. يتعصّب الأبُ لأنَاه.. وينتصِر لأصنامٍ من حِجارةٍ.. فيشعِرُك تَفضيل آزر للأصنَام أن تخاطرًا ما حدث بينهُما ذلك أن القُلوب فيهم مُتشابهة.. وما أصعبَ مهمّة إبراهيم أن يُحيي قلبًا من حجارةٍ.. وينتهِي به الحال لاحتواءِ قلب أبيه.. حتّى إن تيبّست فيه مشاعر الحَنين.. فيَعدُه باستغفار حتّى وإن لم يُجدِ، فالقلب الذي لا ينطِق بالأحرف.. ينطلِق باللّا وعي أحاسيسًا ومشاعرًا.. وإن كانت لا تَدرأ ولا تُغني من فقده إيّاه أي شُعور. 
 
قد تنتهِ القِصص على شَاكلةِ يعقُوب ويُوسف عليهما السّلام بتلاقٍ، وقد تنتهِ على شاكلةِ نوحٍ عليه السّلام وابنه، أو إبراهيم عليه السّلام وأبيه.. لكنّها تنتهِ على أيّة حال وترتَحل، والأيّام دول.. والضريبة في الفَقد دينٌ يرتَد.. حينها لا فِدية يَدفع بها المُتخلّي وجيعة بُكائه على رأسِ من تخلّى عَنهم بإرادته، يودّ حِينها المُتخلي أن يخلعَ ما تبقّى من عُمره عَنه، ويلهثُ خلف رُكوبِ الرّاحلين.. باحثًا عن رُوحٍ كانت تجُوب أبواب قَلبهِ باحثةً عن مَدخل..

ليسَ من الحكمةِ -التي تُغالب الهَوى دومًا- أن يتعلّق القَلب بأشرعةِ الرّاحلين.. ولا أن يقف المُشتاق على أعتابِ من أوصَدوا أبوابَ وصلِهم في وجههِ عُنوةً، وأفلُوا عندما كان البقاء لِزامًا.. فتتوازى خُيوط الفُقد على اختلافها؛ لكنّها تتّصِل في أمرِ التّسليم المُطلق واليقين بحكمةِ الله في الأمر.. وأنّ الفُقد دومًا يأتي بما لا يَشتهي قلبُ المحبّ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.