شعار قسم مدونات

شهداء الحروب الزائفة

blogs - soldiers
الحرب حين تندلع لا يسال أحد عن الأسباب، أو الدوافع وراءها أو مدى شرعيتها، الكل يدخل حالة الدفاع القصوى، يحمل الرجال رشاشاتهم يتدرعون بكامل زيهم وينطلقون بخطى وئيدة نحو الساحة، لكن في تلك المسافة بين نقطة أ و ب يعيشون أقسى المعارك، مرحلة الصراع الداخلي حين يتساءلون عن مدى مصداقية هذه الحرب ولكن سرعان ما يطردون الوساوس بالترانيم وصلوات على هيئة أناشيد وطنية.

أما النساء فلا يجدون وقتاً للتفكر بهذا، الحرب حرب، لا يوجد هناك حرب مقدسة و أخرى مدنسة، ففي كل الأحوال يفقدن زوجاً أو حبيبا، وأكثر من يعانون من هذه الويلات صغار السن الذين تأخذهم نشوة الوطنية على حين غرة، جيل ما بعد الثورات أو ما بعد الدمار، أولئك الذين ولدوا على أنقاض حروب أهلية، ووعوا على هزيج الأغاني المليئة بالمآسي والهجرة واللجوء، وتعج ذاكراتهم بصور المخيمات.

 

في تلة قريبةٍ من الحدود يجلس جندي شاب يتدارك أنفاسه بعد اشتباك حامي الوطيس دار بين الفريقين، كاد أن يفقد حياته بسبب رصاصة طائشة أطلقها شاب مثله

"حين أكبر سأصبح جنديا"، قالها لي طفل من أطفال الشارع رأيته ذات يوم وهو يمارس مشية عسكرية، ابتسمت ثم ربت على راْسه شفقة عليه لحلمه البريء، سيكبر ذات يوم ويعاني ما يعانيه كل جندي على أرض الواقع، ذاك الصراع بين واجبه كجندي أو مرابط على الحدود يتلقى التعليمات دون سؤال عن لماذا وكيف ولمن هذه الحرب ولصالح من، وبين إنسانيته وشرف المهنة، حين ينضم الرجال إلى الجيش لا يتم وضعهم في الحروب مباشرةً بل يمرون بدورات تدريبية، يعطون دروساً في الوطنية في السجون والمهاجع حيث يؤخذ بهم إلى هناك ليتفرجوا على تعذيب الخونة، ثم يناولون السوط ويضربون مرة، وغالبا ما يصابون بهزة نفسية عنيفة في الأيام الاولى لكن سرعان ما يتعودون.

 

يحكي لنا مصطفى خليفة في روايته "القوقعة" عن الشاب يوسف الذي لتوهه تخرج من كلية الجيش وأرسل الى السجن لإكمال دراسته، يقدم يوسف مثالاً جلياً عن ذات الانسان وكيف تسرق منه عنوة على مرأى من عينيه، ففي زحمة اللاإنسانية يفقد الشخص إنسانيته، يغدوا محض فراغ، فارغاً أجوف، حتى عن الشعور بالشعور نفسه.

في تلة قريبةٍ من الحدود يجلس جندي شاب يتدارك أنفاسه بعد اشتباك حامي الوطيس دار بين الفريقين، لم يكن أداؤه جيداً، كاد أن يفقد حياته بسبب رصاصة طائشة أطلقها شاب مثله في مثل عمره ونفس شغفه بالحياة لكنها على غرار ذلك أصابت صديقه، أو هو الذي تلقاها عنه بطواعية، كان صديقه يقاتل في صف العدو، لكنه رغم ذلك تلقى الرصاصة منه، أي أنه مات برصاص جندي من جيشه لا برصاص عدوه، كانا صديقين وأخاً لخطيبته، وكانا يحلمان بوطن يتسع لهما وأصبح كلاهما جندياً، لكن أقدار الحياة المعقدة وضعتهما في جيشين مختلفين في منطقتين مختلفتين لأسباب يجهلانها.

 

تذكر وجه صديقه المشجوب بالأحمر القاني، نفس لون الدم الذي اعتلى وجه أبيه قبل ثلاثين سنة في حرب أهلية مماثلة، ترحم عليه ثم دفن راْسه بين ركبتيه ينتحب ويبكي لسبب ما لا يعرفه، كان قد نسي طعم الدمع منذ زمن، كان سريع التأثر ذَا قلب طيب وقالوا له ساخرين لا مكان لضعاف القلوب بيننا، وكان دائماً يبرر موقفه بالإنسانية حتى صرح القائد في وجهه ذات يوم "الحروب يا هذا ورشة، تدخلها إنساناً، تبرح نصف إنسان، تتطور الى شبه إنسان، وفي أوج التطور تنقطع كل أواصر الصِّلة بالإنسانية، مصطلح الإنسانية يتلاشى، يتصاعد كدخان، كقبس، الى أن يتيه في الفراغ "

لعله لم يتساءل يوماً لما مات أبوه، أمه و أعيان القبيلة ورجال القرية قالوا له أنه كان مجاهداً ومات في حرب وطنية، "وصديقي!" قالها بكل بلاهة وهو يشعر بصداع رهيب "لما مات اذن؟ أيهما كان في حرب وطنية مقدسة؟"، في ذاك اليوم مات كثيرون من كلا الطرفين وجميعهم يعتبرون شهداء من قبل ذويهم، هذا الجندي قتل ذاك الجندي وبهذا أصبح الآخر شهيداً، وقُتل الآخر وهو بدوره أصبح شهيداً، الكل شهداء اذن !

حين تستبد به سطوة الأفكار يهرب إلى الكتابة فهي منفاه الوحيد، و قبل أن يشرع بالكتابة جال لبرهة في خاطره شريط قديم دفنه في عراء باطنه الدفين وظل يتحاشى فتحه "عزيزتي لينا" أدار الشريط في راْسه ولم يكن أمامه سوى أن يواصل في الاسترسال ويترك سيل الذكريات يشرع بالتدفق، عينا لينا أول النهار على الفلق، رعشة الشفق على مياه الوادي، خطوط الشمس الذهبية على وجه لينا، تبسم مرغماً وهو يعود بذاكرته إلى ما قاله لها ذات يوم قبل أن ينضم إلى الجبهة "إنني أحبك يا لينا ولكني أحب بلادي أكثر، بيادر القمح، حقل جدي، مياه البحر الممتدة من شرق الساحل إلى غربه، المحيط الكبير، تماثيل من ناضلوا من أجل تحريره، كلها يا عزيزتي ملك لنا أبذل روحي في سبيل حبة رمل من وطني".

  

اعرف أن غيابي كغياب غيري من الجنود لا يحدث ذاك الكم من الفرق، لكني اؤمن أن كل غروب شمس يذكرك بي، ويجعلك تسرحين بعقلك بعيداً إلى مرج الزهور

كتب لها على طرف منديله كلمتين قصيرتين "إلى واحة نفسي حين تقصيني غربة الأوطان، لينا، اكتب لك في عز حضرة الموت، نقطة اشتباك الموت بالحياة حين يتعانقان، عزيزتي لينا، قد لم يكن من الحكمة ذات يوم أن استسلم في هذا الكم الهائل من النضال، لكني اليوم ذاك الجندي الذي عرف في نهاية الحرب أن هذه الحرب ليست حرباً وطنية كما شاعتها البلاد، وأن أناشيد الكفاح التي نسمعها كل يوم عبر الإذاعة ليست سوى مخدر لإبقائنا يوماً آخر على الحدود، باختصار لقد كنا كبش فداء لأطماع الساسة، ودرعاً لهم أمام جام الثورات.

إننا نحن الشباب المتهور، المنطلق بكل عفوية وعاطفة طالما نقع ضحايا شعارات النضال الزائفة، نهتف خلف كل مهرج ونسير خلفه كحفنة من الأجساد المنومة مغناطيسياً، أنا اليوم أعيش فشلي كشاعر ثائر، ولكني لا أندم على دقيقة بقيت فيها على الحدود، أو ثانية عشتها مؤمنا بأني مناضل لقضية ما بغض النظر عن صحة ذلك أو عدمه، على هذه الأرض يا عزيزتي من الظلم الفائض ما يجعل المرء يلوم على اللحظة التي ولد فيها، إنني بالكاد أعيش هذه الحياة رغماً عني، إننا كل يوم نصبح على تدشين اسم جديد لواقعنا المقيت، كأننا ندخر للأجيال القادمة تلك الخزائن من الذل وقصصا مفادها أن أجدادهم كانوا بارعين في تجسيد واقعهم بكل رجولة.

بالمناسبة، شكراً لانتظارك لي مساءاً اخر، اعرف أن غيابي كغياب غيري من الجنود لا يحدث ذاك الكم من الفرق، لكني اؤمن أن كل غروب شمس يذكرك بي، ويجعلك تسرحين بعقلك بعيداً إلى مرج الزهور لأيام كنّا أنا وأنت وحبنا ولم نحمل بعد هم الوطن، ليتني بقيت ذاك الطفل، وليتني ما عرفت الوطن، قد يمر يوم آخر وأنا لم أفعل شيئا سوى الاتكاء على نفسي، يوم جديد وأنا ما أزال على الحدود أودع سرباً من الطيور مهاجراً نحو الشمال وآخر على متن رياح الجنوب.

 

أحاول التحليق معهم، أشعر بأني مثلهم ايضا، طائر ضاع عن سربه، أحاول جاهداً أن أنتمي إلى هذه الأرض قدر الإمكان لكنها ترفضني، وأنا في نهاية المطاف أنتمي إليك، لسرب عينيك حين تحلقان بي وتهبطان بي وتنتشلانني من قاع هذا الانفصام، يوم جديد وأنا هنا أدندن مرثية شعري الضائع وسيمفونيات الألفية الأولى قبل الميلاد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.