شعار قسم مدونات

من قتل مخيم اليرموك؟

blogs مخيم اليرموك
مخيم اليرموك تدمير وخراب (رويترز)

كنت قد كتبت منذ سنوات سلسلة مقالات حملت عنوان "فلسطينيو سوريا إلى أين"؟ في إشارة إلى مستقبل غامض ينتظر أكثر من 560 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا منهم حوالي 250 ألفا باتوا خارج سوريا عبر عمليات نزوح وهجرة كانت الأول من نوعها في تاريخ وجود الشعب الفلسطيني في سوريا.. وجرى ذلك في الفترة التي زُج فيها اللاجئ الفلسطيني في الأزمة السورية واُستهدفت مخيماته بشكل أو بآخر ليجد نفسه في قلب الأحداث ويدفع ثمن ذلك قتلا واعتقالا وتشريدا ونزوحا وتهجيرا ودخوله مرحلة جديدة من المعاناة والضياع وسط غياب واضح للمرجعية الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية وتخلٍ وتهميش ملموس لمخيمات وقضايا للاجئين الفلسطينيين في سوريا من صنّاع القرار.

وها نحن نعود بعد سنوات الأزمة العجاف التي شهدتها معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا والتي عانى شعبنا الفلسطيني منها أشد المعاناة جراء الأحداث الدامية التي عصفت بهم وكان لمخيم اليرموك نصيباً وافراً ومتميزاً منها، تمثّل في صور ومشاهد صادمة لم نعهدها من قبل تبعث على الاستهجان تارة والغضب والاشمئزاز تارة أخرى وتفضي إلى دخول اللاجئ الفلسطيني مرحلة جديدة من النكبات ومكابدة الظروف والمحن المريرة نتيجة تسارع الأحداث التي أرخت بظلالها وثقلها على المجتمع الفلسطيني بكافة مكوناته وأدت إلى ما أدت إليه من نتائج مأساوية تجعلنا أحياناً نفقد قابليتنا على استيعاب ما جرى بالأمس ويجري اليوم كحقائق لها مسارها في سير الأحداث.

ولكي لا تصبح حدود معرفتنا على أطراف شفاهنا المتحركة ونلوك كلاماً انفعالياً سريعاً لا يسمن ولا يعني من جوع، نعود لا لنطرح الأسئلة والاستفسارات ونوزّع الاتهامات جزافاً كمن يجلد نفسه ويجلد وغيره بسياط العتب واللوم وإن كانا كبيران وكثيران جداً، فكلنا يعلم أن التاريخ لن يرحم أحد والذاكرة لن تغفل وتنسى أحدا، بعد أن زحف بياض الأسى إلى عيون اللاجئ الفلسطيني وبعد أن أكل القهر والعذاب من جرف أحلامه ما أكل، حتى جفت أحلامه وتصحرت آماله بالعودة إلى بيته في مخيم قد تهشّم كبريائه بالأمس القريب وكأن لسان حاله يقول: تركتموني وحيدا وأضعتموني وسُحقت كرامتي أمام أعينكم وصرت كمرآة مهشمة مدماة.

مخيم اليرموك رمز العودة والإقامة المؤقتة على طريق العودة إلى الوطن الام فلسطين. يُذكِرَكم عندما أدرتم وجوهكم وظهوركم لشعبكم بالمخيمات وتركتموه خلفكم يعاني
مخيم اليرموك رمز العودة والإقامة المؤقتة على طريق العودة إلى الوطن الام فلسطين. يُذكِرَكم عندما أدرتم وجوهكم وظهوركم لشعبكم بالمخيمات وتركتموه خلفكم يعاني
 

نعم.. هذا ما يقوله مخيم اليرموك لكم ويُذكِرَكم بشوارعه وأحياءه وأهله وأنه كان فيما مضى أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا.. ويُذكِرَكم بأسماء لطالما رددتها ألسنتكم في مناسبات كثيرة يوم وصفتموه بخزان الثورة الفلسطينية .فكان اسمه مخيم اليرموك وعاصمة الشتات الفلسطيني.. ومخيم الشهداء الذي دفن في مقابره رموز الثورة والمقاومة الفلسطينية كالشهيد خليل الوزير والشهيد فتحي الشقاقي والشهيد سعد صايل والشهيد محمود المبحوح وغيرهم الكثير من الشهداء الذين لم تنجوا قبورهم من الإجرام والتنكيل على أيادي الحقد والكراهية.

نعم.. إنه مخيم اليرموك رمز العودة والإقامة المؤقتة على طريق العودة إلى الوطن الام فلسطين. يُذكِرَكم عندما أدرتم وجوهكم وظهوركم لشعبكم في المخيمات وتركتموه خلفكم يعاني لوحده ويسقط آلاف الضحايا والجرحى والمفقودين والمعتقلين والمهجرين والمشردين والمنكوبين والتائهين في أصقاع الأرض. ولا ندري إن رأوا صورك يا مخيم اليرموك وسمعوا أنين جراحك وكلماتك المسحوقة وهي تتغنى بألم اللاجئ المجيد. ولا ندري إن عرفوا أن هناك عشرات الجثث مازالت تحت أنقاض بيوتك المدمرة.

ها أنا اُذكِركم بالجرح النازف الأشد وطأة من أي سلاح والذي ستحمله الأجيال في صدروهم قصصاً وحكايات وآلام تسكن في وجدانهم وتكون حاضرة في ذاكرتهم كوشوم طعنات قد تفنن في رسمها ونقشها الأشقاء قبل غيرهم !اُذكِرَكم كيف يزحف بياض الأسى إلى عيون شعبكم وكيف يأكل القهر من جرف أحلامهم في المخيمات ما يأكل، حتى جفت أحلامهم وتصحّرت آمالهم وانعدمت السبل وسُدت الطرق في وجوههم ليُتَركوا وحدهم ويُقتلوا مرة تلو الأخرى! إنها الحقيقة المرّة التي لابد من الوقوف أمامها. وهي أنك تستطيع إعمار ما دمرته الحرب بفترة وجيزة، لكن كيف ستبني إنسانا دُمرت نفسيته وأصبح وحيدا ضائعا يموت ويُقتل كل يوم كما قتل مخيم اليرموك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.