شعار قسم مدونات

الولادة.. صدمة فكرية!

blogs طفل مولود

تأتى فجأة لحظات وبدون سابق إنذار تجعلك تقف عاجزاً ليس عن الحركة فقط وإنما عن التفكير أيضاً لحظات تُسري في عروقك صدمة أشد من الصدمات الكهربائية لحظات تهز كيانك وتجبرك على إعادة التفكير مراراً وتكراراً كأنه مشهد لا يفارقك أبداً تراه في كل لحظة ببساطة الأمر أشبه بشبح يتعقبك. إنها دموع تلك الأم التي حضرت أول ولادة لها كتدريب لي في المستشفى هي من فعلت بي كل ذلك.

 

تلك الأم التي لم تبلغ سن العشرين ذات جسد ضعيف ووجه بيضاوي وعيون خضراء وأنف صغير ذا استقامة ليس بالطويل ولا القصير. كانت تتلوى من شدة الألم وتصرخ ظناً منها أن الصراخ قد يخففه تقبض بيديها على حافة سرير العمليات كمن يريد أن يعصره. تنظر إلي نظرات تخبرني بها أنها ليست قادرة على تحمل أكثر من ذلك و تردد بين شفتيها كلمة يا رب-كان من السهل معرفتها -.

 

قيل أن ألم الولادة يعادل كسر 42 عظمة ولكنى وجدت أن ذلك أقل من أن يصفه فلم أرى في حياتي أحداً يعتصر بهذه الشدة. وسبحان من جعل تلك الآية تتردد في سمعي كمن يصرخ بها في أذني "يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا" لا أعرف لماذا خطرت ببالي ولماذا رددها عقلي الباطن مراراً وتكراراً فأنا أعرف تفسيرها الصحيح ولكن كان بداخلي شعور قوى أن تلك الآية نزلت لتصف ذلك الألم وليس كما قال كثير من العلماء.

 

تلك الفتاه رغم سنها الصغير جداً جعلتني أرى المعنى الحرفي للأمومة أمامي بل نقلته إليّ كمن ينقل الدم من جسد لآخر فوجدت نفسي أحتضن الطفل دون أن أدرك وشعرت بإحساس لم أشعر به من قبل

ثم فجأةً يخرجني صوت ما من دوامة تفكيري إنه صوت صراخ ذلك الطفل الذي تذوقت تلك المرأة الموت من أجله لقد خرج الآن إلى الدنيا ليُقر عينها ويشد على عضدها. ثم أتت تلك اللحظة لحظةُ شعرت فيها أن الزمن توقف وأن كل شيء حولي ساكن حتى أنفاسي ونبضات قلبي إنها لحظة أن حملت ذلك الطفل بيدي وذهبت به لأمه كي تراه فإذا بي أفاجأ بدموعها تنهمر بمجرد أن سقطت عيناها عليه. تلك الدموع التي أطلقت بداخلي صرخات أسئلة تلك الصرخات التي ظننت أن بخروجي من غرفة العمليات ستتوقف ولكنها ما زالت تراودني ما زالت ملتهبة بداخلي فلا تريد التوقف حتى تحصل على أجوبة فتلك لحظة الهروب منها مستحيل.

 

لماذا بكت لرؤيته ولم تبك لآلامها؟ ما الذي يجعلها تتحمل كل هذا؟ وما الممتع في الأمومة؟ تلك الفتاه رغم سنها الصغير جداً جعلتني أرى المعنى الحرفي للأمومة أمامي بل نقلته إليّ كمن ينقل الدم من جسد لآخر فوجدت نفسي أحتضن الطفل دون أن أدرك شعرت بإحساس لم أشعر به من قبل رغم حملي لأكثر من طفل من قبل بيديّ. ها أنا ذا أمسك يديه وأشعر بملمس أتمنى لو يعود الزمن لأشعر به مجددا ملمس لا يعرفه إلا الأمهات بل بمعنى أوضح النساء.

 

لقد كنت دائما لا أقدر ذلك الإحساس بل أحيانا كنت أعتبره شيئا وهمياً وأن مصطلح الأمومة أُختلق من أجل تبرير تصرفات النساء الغريبة حيث بعد كل ذلك الألم الذي تسبب به هذا الطفل يحبونه بل إنهن يعشقنه ويقومون بخدمته والسهر عليه وإعطائه من وقتهم وصحتهم ونومهم بل إنهن يعطونه حياتهم كلها. كل هذا بدون مقابل مادي فقط مقابل يزعمون وجوده كنت مقتنعة أن ما تفعله النساء إما لأنهن أجبرن عليه أو لأنهن تربين على فعل ذلك فمعظم النساء تعيش تلك الحياة التقليدية التي تنتهي بالزواج والإنجاب ليس باختيارهن وإنما بالإجبار غالباً فأنا كنت أرغب في حياة مختلفة حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الرجال حياة العمل والإنجازات والشهرة والاستقلالية والسفر والخروج لا حياة المنزل والأطفال والزوج فأنا أكره الحياة التقليدية التي يكون فيها الأمس مثل اليوم مثل الغد لا فارق بينهم.

 

قيل أن علينا مراقبة أفكارنا لأنها تتحول إلى أفعال والأفعال تتحول إلى عادات والعادات تحدد المصير. وأنا كانت تلك أفكاري فمررت بالسلسلة إلى أن حددت مصيري. نعم أنا على بداية هذا المصير الذي اخترته سابقاً ولست نادمة على اختياره ولكن هذا لا يعنى ألا أوازن ما بين طبيعتي ورغبتي فأنا أعترض بشدة على من يستند على الطبيعة فقط ويقول إن المرأة للمنزل فقط فهذا لا يقبله الدين ولا حتى العقل وأيضاً لا أوافق على اختيار الرغبة فقط فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بفعل صحيح في جزء من حياته بينما هو مشغول بفعل خطأ في الجزء الآخر فالحياة كتلة واحده لا يمكن تجزئتها. لذلك كان علي الوقوف قليلاً مع نفسي وإعادة صياغة أفكاري لكى أحقق التوازن في حياتى فلا يمكنني الهروب من الطبيعة ولا حتى من الرغبة، فرفقاً بالنساء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.