شعار قسم مدونات

شيء ما يسحبُك للداخل.. مسيرات العودة الكبرى

مدونات - غزة مسيرة العودة

عندما تحُطُّ قدماك مخيم العودة الذي بدأت فعالياته من الثلاثين من مارس في ذكرى يوم الأرض، تحط قدمك أرض الميدان؛ لكن ثمّة شيء ما يدفعُك للأمام لترى ما خلف هذا الساتر الرملي الذي يٌشكّل من تلّةٍ رمليةٍ صغيرةٍ مصنوعةٍ على امتداد الحدود مع قطاع غزة، تصعد الساتر الرملي وتنزل أسفله لترى أمامك مساحة وما بعدها ليس ببعيد السلك الفاصل وخلف هذا السلك يختبئ قناصو الاحتلال كالفئران!

 

العدو أمامك والحشود من خلفِك، أنت تعلم يقينًا أن الجنود المتمركزين يمتلكون أجهزة الفحص الإلكتروني لوجوه المتظاهرين وقوى عاتية من القناصين، ناهيك عن قنابل الغاز المسيل للدموع والمتلف للأعصاب؛ رغم ذلك فإن قدميك تَسُوقُك للأمام، للأمامِ أكثر، لا شيء تركًنُ إليه ولكنّك تتقدم بلا خوف وسِر ُّتقدُمِك أنّك أنت صاحب الحق وصاحب الأرض وما سوى ذلك سراب، أنت صاحب الحق الذي لا يهاب.

 

في مخيمات العودةِ جمعٌ من المتظاهرين، خيمٌ مقسّمة ومنظمّة، وثمّة باعةٍ هنا وهناك يقتاتون رزقهم الذي قد يكون رزقهم الأخير قبل أن تباغتهم قنبلة غاز قد تودي بوعي أحدهم حينًا أو رصاصة غدر توقعه جريحًا أو ترقى به للعلياء شهيدًا. في مخيمات العودةِ صورٌ للشهداء الذين خضّبوا بدمائهم هذا الثرى الطهور، صور ملصقة بالخيام، وصور محمولة في قلبِ كل متظاهر لشهداء الحروب التي عصفت بغزة، ولشهداء مسيراتِ العودة، ولشهداء انتفاضة القدس.

  

مخيمات العودة هي مظاهرات ثورية سلمية، توصل للاحتلال رسالة واضحة وصريحة بأن الشعب إذا أراد أن يثور فإنه على ذلك قادر

في مخيمات العودة وحداتُ الصحافة والصحة على أهبة الاستعداد، ووحداتٌ ميدانية من الشُبّان والفتيات ممرضين كانوا أو متطوعين يحملون في أيديهم أوراقًا مبللة بالعطر وزجاجاتٍ من (الكالونيا) التي يرشّونها على أكُفِّ المتظاهرين، ويمسحون لهم الدموع التي نزلت رغمًا عنها نتيجة الغاز المسيل للدموع الذي من استنشاقةٍ واحدة تَشعر كأن حُنجرتَك تحترق وعيناك بجانب الاحتراق تدمعان. هم في سباقٍ مع قنبلة الغاز أيهم يصلُ لأنفِ المتظاهر وكفّه أولاً، هل ستنالُ منه القنبلة أم أن هذه الطرق الوقائية البسيطة ستكون هي الأقوى والأسرع.

 

في مخيمات العودة شيخٌ كبير يُعطي الجندي الصهيوني ظهره ويأخذ صورًا مع بقايا الأمتارِ التي تفصله عنه، شبابٌ يتسابقون بعجلةِ (الكوشوك) كي يضرموا بها النار ليصنعوا غشاوةً على العين التي ترتقِبُهم لتقنصهم، عجوزٌ ما ان اقتربت من الحدود حتى رفرفت روحها نحو نقبٍ هُجّرت منه وهي تحمل فوق رأسها صُرّةً فيها عُدة الأيام التي ستقضيها سيرًا كي تصل لصحراء النقب حيث موطنها وتردد تراويد العودة وأهازيج البِلاد وغربة الأوطان، وفي المخيمات أيضًا جمعٌ من مخاتير البلدات التي هُجّروا منها، شباب وفتيات، صغار وكبار كأنّه نفير التغريبة لكنْ بعكس الاتجاهات.

في مسراتِ العودة لا فرق بين المتظاهرين، فالصغيرُ مستهدفٌ قبل الكبير، والصحفي الذي يحمل شارة الصحافة هو في عين الاستهداف قبل الشاب الذي يحمل مقلاعًا، وكذلك المسعف والممرض وسائق سيارة الإسعاف، وجميعهم إن سَلِمَ أحدهم من رصاص الاحتلال فإنهم لا يسلمون أبدًا من قنابله اللعينة.

 

مخيمات العودة هي مظاهرات ثورية سلمية، توصل للاحتلال رسالة واضحة وصريحة بأن الشعب إذا أراد أن يثور فإنه على ذلك قادر، وأنه إن أراد قصّ السلك الفاصل والولوج للداخل فإنّه أيضًا قادر، وهنا تتجلى كلمات الشاعر عبد الرحيم محمود حين قال:

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى

 
ورغم سلميّتها إلا أن العدو يهابها كثيرًا، ويفكر كثيرًا في عُقباها، ولا يفتأ أن ينشر الرسائل لمواطني غزة بان لا ينجرفوا لأي نداءٍ نحوها وما خوفهم إلا لأنّهم هباء ولأنّ الباطلِ كالقشّة تحركه نسمةٌ رقيقة، فما بالُك بريحٍ عاتية؟!

  

انتهت الجُمعة الخامسة من حشود مسيرات العودة التي لا زالت مستمرة، وتأهبُ كبير مصوّبٌ لليوم الذي يزعم الاحتلال فيه يًعلن القدس لتكون عاصمةً لهم في الخامس عشر من مايو القادم، ماذا سيفعُل شبابُ مسيرةِ العودة وإلى أين ستؤولُ بنا الأحداث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.