شعار قسم مدونات

الاقتصاد المسموم ودولة العسكر في مصر

blogs الاقتصاد المصري

عندما قمت بنشر ورقتي العلمية وبعض المقالات البحثية حول ذلك المفهوم الاقتصادي الجديد الذي أطرحه تحت عنوان الاقتصاد المسموم، كانت أولي الحالات التطبيقية هي الحالة المصرية فكان العنوان المنشور هو الاقتصاد المسموم: النموذج المصري، Toxic Economy: the Egyptian Model، وقد أثار المفهوم جدلا واسعا وتقديرا جامعا في الأوساط ذات العلاقة حتي تم نشر ملخص البحث علي موقع الشرق الأوسط لأولي الجامعات الرائدة في هذا المجال، LSE -London School of Economics and Political science.

 

وكان هذا بداية مرحلة جديدة بدأ فيها أنه من الضروري أن يخرج العلم من بوتقته والبحث من مكتبته لكي ينتشر المفهوم ويعرف المجهول بالمعلوم، ولذا بدأت في حث القلم علي الكتابة ولم أقبل منه تراجعا ولا استتابة لكي أناقش معكم المفهوم وتطبيقاته بنص مبسط ومعلوم في سلسلة من حلقات وتدوينات لكي ينتشر الخبر ويفتح باب النقاش لكل من يهمه الأمر علي أرض البشر.

أصل الحكاية

لا شك في أن المنظومة الاقتصادية المصرية هي منظومة عجيبة غريبة وفي أحيانا كثيرة يمكن وصفها بالمريبة، لا يعود ذلك فقط كون تلك المنظومة قد صنعت فسادا مؤسسي بقوة هرمها الرابع، ولكن رحلة تلك المنظومة من عصر الاقتصاد المركزي المخطط في عهد عبد الناصر إلى عهد السيسي، هي رحلة زاخرة ببرامج الإصلاح وإعادة الهيكلة والخصخصة والمشاريع العملاقة والوعود المزخرفة والبراقة، والتي لم نعرف لها تأثيرا ولم نري لها كرامة علي حياة المواطن في أرض الكنانة.

تسبب الثورات هزة قوية في المنظومات السياسية والاقتصادية المستقرة، فما بالك بتلك الهشة التي تحمل الكثير من الوهم ومن استراتيجيات حماية الفساد وتقنين الإفساد

ولكن مصر هي بلد الحضارة والعجب وأسرار اقتصادها فاقت تلك التي أخفاها الفراعنة في بطن الجبل، فبات حجر رشيد لا يحل لها رموزا وصار منهاجها وعالمها سرا غير مدروسا، ففي أوج عزها الرقمي في العصر المباركي بين ٢٠٠٤، ٢٠٠٨ وعندما وصلت معدلات النمو لأعلي معدل في تاريخها بنسبة ٨ بالمائة، كان من المفترض أن ينعكس ذلك علي مستوي معيشة الأفراد والمواطنين والأسر، ولكن علي مر العقود والسنين ووصولا لأكثر الاقتصاديات تطرفا في عهد السيسي الذي وعد المصريين بالغني والتمكين، لم تشهد مصر غير زيادة مستمرة في معدلات البطالة والتضخم وتدني الحالة المعيشية حينا بعد حين، وهروب أجيال من خيرة الشباب وعقول البلاد لكي يستمر السيناريو الحزين، ولكي تدخل البلاد في أتون من غلاء وفقر وضنك وقهر من جحيم.

اقتصاد الثورة وبداية عهد الانقلاب

تسبب الثورات هزة قوية في المنظومات السياسية والاقتصادية المستقرة، فما بالك بتلك الهشة التي تحمل الكثير من الوهم ومن استراتيجيات حماية الفساد وتقنين الإفساد، ولهذا جاءت ثورة يناير لتسبب هبوطا دراميا في احتياط النقد الأجنبي من ٣٦ مليار دولار في ديسمبر ٢٠١٠ إلى ١٦.٣ مليار دولار في يناير ٢٠١٢، مصاحبا لذلك تقليل غير مسبوق للتقييم البنكي في مصر ليصل لأسوأ معدلاته علي مر سنواته، ولكن لا عجب ولا عجاب فهذه هي طبيعة الثورات وتأثيرها المباشر علي كل المنظومات.

ولأن منظومة الثورة لم تختبر اقتصاديا وتم إقصاؤها سياسيا بانقلاب عسكري في ٣ يوليو ٢٠١٣، فقد جاء عهد السيسي حاملا معه تساؤلات كثيرة ورؤي متضاربة حول مستقبل المنظومة الاقتصادية المصرية، وخاصة مع زيادة عدد الشركات الأجنبية التي أغلقت أبوابها في مصر ومع استمرار الحالة القمعية الدموية والاضطرابات السياسية وغيرها من المؤشرات السلبية المؤثرة علي المنظومة.

 

ولكن تدفق الأموال من السعودية والإمارات، مع الدعم الإسرائيلي الدائم والمعلن لمنظومة الانقلاب، أدي إلى ارتفاع معدل النمو في ٢٠١٥ إلى ٤.٢ بالمائة عن ٢٠١٤ والذي سجل ٢٠٢ بالمائة، وهنا حملت المنظومة رسالة إيجابية جديدة علي تحسن الوضع الاقتصادي في البلاد، ولكنها ما لبثت أن ازدادت الصورة ضبابية في خضم معدلات البطالة التي تعدت ٤٠ بالمائة بين الخريجين والخريجات.

يخرج علينا البنك المركزي المصري معلنا زيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى ٤٤ مليار دولار مسجلا معدلا قياسيا جديدا في تاريخ تلك المنظومة الاقتصادية العجيبة
يخرج علينا البنك المركزي المصري معلنا زيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى ٤٤ مليار دولار مسجلا معدلا قياسيا جديدا في تاريخ تلك المنظومة الاقتصادية العجيبة
 
الاقتصاد المصري.. النموذج السيساوي

ومع توقيع قرض الثلاث سنوات مع صندوق النقد الدولي بقيمة ١٢ مليار دولار في نوفمبر ٢٠١٦ دخلت البلاد في مرحلة جديدة من التحديات الاقتصادية الخطيرة والغير مسبوقة، حيث ألزم القرض الحكومة بإنفاذ سياسة مالية جديدة خطيرة ومتهورة، اشتملت علي شروط تحرير سعر الصرف الجنيه المصري، وضغط بنود الموازنة، وزيادة الضرائب ورفع الدعم عن المحروقات وتعديل سياسات وقوانين الاستثمار، ولقد كان من الجلي والواضح أن سياسات الصندوق كانت موجهة نحو تحسين صورة الاقتصاد الكلي Macroeconomics مع تجاهل تأثير هذه السياسات علي الاقتصاد الجزئي Microeconomics والمرتبط بصورة مباشرة بحياة المواطن ومستوي معيشة الأفراد.

واليوم ومع قرب انتهاء الربع الثاني من عام ٢٠١٨ يخرج علينا البنك المركزي المصري معلنا زيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى ٤٤ مليار دولار مسجلا معدلا قياسيا جديدا في تاريخ تلك المنظومة الاقتصادية العجيبة، كما تخرج علينا مؤشرات كثيرة لتؤكد علي تعافي الاقتصاد المصري مع توقع زيادة معدلات النمو من ٤.٧ بالمائة في ٢٠١٨ إلى ٥.٣ بالمائة في ٢٠١٩ وكذلك توقع هبوط معدلات التضخم من ٢١ بالمائة في ٢٠١٨ إلى ١٤ بالمائة في ٢٠١٩.

فما هي دلالات هذه الأرقام وكيف يمكن أن نفسر تلك الحالة الفريدة التي نشهد فيها مؤشرات متتالية لتعافي المنظومة الاقتصادية ليصاحبها تدني مستمر وغير مسبوق في مستوي الحالة المعيشية للأفراد مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض مستوي الجودة الحياتية لأدني مستوياتها، هذا ما سوف نحاول أن نفسره ونزيح الستار عن أسراره لنظهره في الحلقة الثانية من هذه السلسلة فانتظرونا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.