شعار قسم مدونات

كيف تخلق مجتمعاً مريضاً؟

blogs ريف دمشق

لطالما تساءلت في صغري عن الأوضاع المزرية التي كانت تعاني منها المناطق التابعة لريف دمشق، لطالما شعرنا بالازدراء من سكان هذه الأرياف الذين يعيشون طبقياً أدنى منا. أودى بِنَا هذا الازدراء إلى قيامنا بتفريزهم تحت ألقاب ومسميات مؤلمة حقاً منها الضيعجي، والريفي والشاوي والعديد من المسميات الأخرى، والصفات التي لا يمكن أن تدل إلا على عنصرية وكراهية تنبع من تفاصيل تلك الفسيفساء المجتمعية.

شوارع رئيسية وفرعية بدون تعبيد، أزقة بدون إضاءة، حفر تملأ الشوارع، شبكات كهرباء مسروقة، عشوائيات بالجملة، صرف صحي غير مكتمل طرق لا تصلح للسيارات أو خطوط النقل العام إن وصلت إلى تلك المناطق أصلا، كل هذه مجرد ذكريات وشواهد محفورة في ذاكرة أي دمشقي. المعضمية، داريا، ببيلا، خان الشيح، حرستا، عين ترما، دوما، عرطوز، حمورية، سقبا، والعشرات من المدن المندرجة تحت مسمى ريف دمشق والتي تبعد مسافة لا تزيد عن ١٥ دقيقة عن قلب العاصمة لكن واقعهم لا يقارن برصيف واحد من أرصفة دمشق.

والآن لنقلب الصورة.. الحدائق، المسرح، الحفلات، الأسواق، المحال، مراكز التسوق الكبيرة، أحياء فاخرة، شوارع نظيفة، ومعبدة، وسيارات باهظة الثمن وشبكات صرف صحي ووسائل نقل عامة بالإضافة الى شبكات هاتف وكهرباء وانترنت جميعها ينعم بها كل من يقطن في المدينة، حين أن واقع ابن الريف سيء ذو خدمات سيئة ولا شيء يحترم وجوده أو يساهم في إعطائه شعور الحياة الطبيعية. أسماء الأحياء الفاخرة في المدينة كثيرة منها المالكي وأبو رمانة والميسات والصالحية وغيرها العشرات حيث يقطن وينعم الكثيرون فيها بحياة كريمة. وأيضا لابن المدينة عند ابن الريف خانات وصفات وأسماء منها ولاد النعم وبتمون معلقة من ذهب والبغو وقليلي الخبرة والمايعين ومالهم زولم وكلهم حريم، عبارات تنضح بما تحتويه ثنايا تلك اللحمة الوطنية من عنصرية وكراهية.

الميزان
الذنب يكون على من عمل جاهداً لترسيخ هذه الفروقات وتعزيزها أو وجدها مزروعة سلفاً ولم يفعل أي شيء لنزعها، واستعمالها بشكل مقصود لتكون آلية للسيادة والسيطرة على أبناء المجتمع الواحد

دعونا الان نقف في المنتصف لنرى المعادلة، لدينا في الكفة الأولى ابن المدينة والكفة الثانية ابن الريف الكارهين لبعضهما البعض، كلاهما ينظر للآخر بدونية وطبقية وكلاهما يطلق ألفاظ وألقاب على الأخر. فيأتي السؤال هنا: من المسؤول عن هذه العداوة والتفرقة التي زرعت في طبقات هذا المجتمع، فدمشق وريفها هي مثال حي لـ ١٤ عشرة محافظة أخرى من شمال سورية إلى جنوبها يعانون نفس الأمراض المجتمعية والعنصرية والطبقية المتفشية، هل هي صفات تتوارثها الأجيال من تاريخ لم يخلوا من النزاعات أم هنالك من عمل على تعزيزها؟ يأتي الجواب أيضاً على شاكلة سؤال: ليس مهماً من أين أتت العنصرية والكراهية ولكن ماذا فعلنا للتخلص منها؟ وخصوصاً تلك النابعة عن فروق الحياة بين المدينة والريف؟

هل يعقل أنه على مدى ٧٠ عاماً مضت لم يستطع أن يأتي رئيس حكومة واحدة أو وزير أو محافظ أو رئيس بلدية أو حتى مسؤولاً واحداً ذو شرف وهمة وضمير لديه خطة إصلاحية ويقوم بعمل واحد فقط ليخفف من وطأة هذه الفروقات الطبقية فيعطي أهل الأرياف حقهم من الخدمات الأساسية والرئيسية التي تؤمن لهم أبسط الحقوق ويرفع من مستوى المعيشة هنالك؟

الذنب ليس ذنب ابن المدينة ولا ابن الريف فكلاهما أبناء بقعة جغرافية واحدة على اختلاف تسميتها، مهما توسعت أو تقلصت مساحتها فسكانها ذو بيئة وطبيعة متقاربة لن يختلفوا كثيراً، ولكن الذنب يكون على من عمل جاهداً لترسيخ هذه الفروقات وتعزيزها أو وجدها مزروعة سلفاً ولم يفعل أي شيء لنزعها، واستعمالها بشكل مقصود لتكون آلية للسيادة والسيطرة على أبناء المجتمع الواحد.

في النهاية لا بد أن ننوه أن نموذج المدينة والريف هو أساس ثابت في تنظيم الحياة المدنية في جميع أنحاء دول العالم ولكن ليس بالضرورة أن يكون الريف أقل حظاً من المدينة في الخدمات الأساسية والرئيسية والحق في الحياة الكريمة التي تحترم وجود الإنسان، فهنالك تجارب عالمية رائدة كانت قادرة على موازنة كفتي الميزان بشكل يحقق التوازن في المجتمع وبالضرورة تساعد في تطوره ونموه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.