شعار قسم مدونات

رَمضان.. والثُلثُ قد تم!

blogs قرآن

في اللحظَة التي سَلّم فيها الإمامُ مُعلِناً انتِهاءَ القيام، وكَكُل المُصلين، وقفتُ واستَدرتُ هامّاً بالخُروج، إلا أنّ صوتَ مَن قامَ مُتعجّلاً رَنّ في أُذني بَعدَ أن تَشَكّلَ عَلى صوتِ صَدىً أن تَبَطّأ وأطِل المُكث، وصَريرُ الباب الذي تدفَعه الأيادي المُتتابعَة عُنوة خارِج المَسجِد يَقول: إلهي إني نَذرتُ الاعتكاف فأخرَجوني إلى دُنياهُم.. فاستَدرتُ أخرى عَكس عَقارِب الساعَة مُستجيبَاً؛ حينَها وقعَت عيني عَلى تَقويمِ المَسجِد إذ قامَ الإمامُ ونَزَع ورقَةَ العاشِر مِن رمضان! ويَكأنّها رسالَة الله لي أن الثُلثَ قَد تَم فأينَ أنتَ؟ تَبَطّأ فالثُلثُ كَثير!

فَجَلستُ كَعادَتي بينَ يَدي القَمرِ مُخاطِباً، يا وليدَ العَشرِ الأولى: أما زِلتَ كما مَضى تَعُدّ الأيام لِفرحَةِ عيدِ اكتِمالِك، وتَنشُر في الدُجى بَسمات النور عَلى تَسارُع الليالي! أيُّها القَمَر.. تَعال نَتدارَس المَعاني لِنَعي الأفعال، ونُشعِل نورَ العاداتِ بِفقه الإعادات، ونَرسُم في كُل هَمسٍ قَلباً، نُراقِب مِنه نَبضَه، استِشعارَه، استِشارَته وانتِشارَه. اقتَرب فإنّنا لَن نَفهَم مَعنى الحَياة بِنجاةِ نوحٍ ومَن مَعه دون تحويلِ القصّة إلى مُفرداتِها ألواحَاً ودُسر، ومن كُلٍ زوجين. في مُحاولَةٍ لنَرسُم للثُلثينِ طَعماً آخَر لمَن كانَ ذوّاقَاً بقلبِه، رفيقَاً مُتلَطّفاً بروحِه، هامِساً لأناه: إنّ لي ظِلا سَبقني إلى الجَنّة! 

أيّها القَمر، خُذني مِن أرضي، سافِر بي إلى عَليائِك، إنّي أتوقُ إليّ بِصبغَةِ عارِفٍ، حَتّى وإن عَجزتُ قالت مَلائِكَةُ الله وهو أعلَمُ سُبحانَه شَفّعه باختيارِ الطريق وإن لَم يَسلُك.. هُنا اجمَع يديكَ إلى يديّ لنَدعو الله أن يَقسِمَ لنا في هذا الحَرفِ نوراً يُشِعُّ لَنا بقيّة الطَريق. لنبدَأ بالشّهر الرمضانيّ، فنُعيد له ترتيبَ حُروفه لمن صاموا نَهارَه وحوّلوا ليلَه لِموائِدَ لا تُميّز بينَ الخيطِ الأبيض والأسود في السماء، فصار لهُم شَرَه رَمضان بَدلاً مِن شَهره !. ولَنخُطّ على أيّامه أعياداً، ونُسمي لياليه بليالي القَدر فَنَعُدّه بالعيد والقدر لا بالحَلقات التلفزيونيّة، وأن نَبدأ بإيقاظِ نوّامِه لأنّه شَهر العمل والفُتوحات لا شَهر الكَسَل! فيصيرَ رمضان بِصحَة الجَسد والروح لا مَرضان هَلاكُ الجسدِ وانتِفاء الروح مِن لذاتِها.

هَلُمّ بِنا نُعيد تَعريف القَشعريرَة بأنّها نَظرَةُ الله إلى قَلبِك فَهزّتك.. ودعنا نَجعَل من الدّمع طَهوراً في أولِ سَطره
هَلُمّ بِنا نُعيد تَعريف القَشعريرَة بأنّها نَظرَةُ الله إلى قَلبِك فَهزّتك.. ودعنا نَجعَل من الدّمع طَهوراً في أولِ سَطره "هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ"، "فللبُكاء تَنعَقدُ صَلاةُ الروح"!
 

ثُمّ لِنَعرُج لمفهومِ الصَوم: سَنُخرجه مِن مَعناه المَعروف، ولنُجرّب أن نَعيشَه عَلى أنّه سَفينَةُ النَّاجين، وفي كلامِ الله "الصَومُ لي" كُلّ الوجهَة والمَقصِد فَيكونُ أذانُ الفجر الأول بِشارَة أن اركَب مَعنا، ونِداء الغُروب فَرحَة ربانيّة لَن نُدرِكَ كَنهها إن لَم نَستَمتِع في رحلَة الصَوم فَنَلِجَ أعماق النّفسِ ثُمّ نَسرَح في فَضاءاتِ الله. أيُّها القَمر لنَجعَل مِن القِراءَة بوابَة سَفَر، ولنَحوّل قِراءَة القُرآن إلى قُرّة: فَننفُخ بينَ سُطور الآياتِ الروحَ لنُحيي الأموات مُخاطبين: يا هُدهُد سُليمان أعطِني مِن سِر جِبلّتك في هَم تبليغ الدَعوَة، ويا حوتَ الأرض أسمعني كيفَ تُسبّحِ الله ونَعجَز!، ويا نَملَة فَهمَت مَعنى القيادَة فنبّهت بعد أن انتَبهَت، دُلّينا كَيفَ نواجِهُ مَشاكِل الحياةِ بِثِقَة. 

ونكونُ بالقِراءَة وقّافين؛ فَنقف عند ما يُحِبُّ الله، نَستَشعر دِفء الآيات، ونَعوذ بالله مِن النار إذا اشتَعلَ ذكرُها وأحسسنا بِحرّها حينَ نَقرأ، ونَبتَسِم في وجهِ آيات البُشرى ويَكأنّها أنزِلَت لِقلوبِنا، وتُليتَ بِشارات لأنفُسنا مُتيقنينَ بِحُسن ظَنّ ربّنا. تَعالَ نُتابِع المَسير فَنفهَمُ أنّ أصلَ الدُعاءِ اليَقين، فنتيَقَن أن الله لا يُغلِقُ بابه، ونَحذُر مِن أن نَنشَغِلَ بالطَلبِ عَن جماليات الوقوف عَلى باب الله، أو أن تَطغى الحاجَة منّا حَلاوَة مُناجاة الله. 

هَلُمّ بِنا نُعيد تَعريف القَشعريرَة بأنّها نَظرَةُ الله إلى قَلبِك فَهزّتك.. ودعنا نَجعَل من الدّمع طَهوراً في أولِ سَطره "هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ"، "فللبُكاء تَنعَقدُ صَلاةُ الروح"! ونُغيّر عُنوانَ الأزمانِ فيكونُ ثُلثُ الليل الآخِر ميدانَ القًرب إذ يَتجلى الله جَلّ وعلا إلى الأرض، فيكونُ للذكرِ حلاوَة، ولِقراءَة القُرآن طَراوَة، وللدعواتِ استِجابَة. أيُّها القَمر بِهذا نَبدأ رِحلَة الثُلثين آملينَ في رحلَة الصَوم "بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا"، عَسى أن نُكتَب في مِحرابِ المَحبّة والقَبول والعتق..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.