شعار قسم مدونات

شكراً.. لأنك بعتني وقتك

إذا كان من المناسب أن نطلق مصطلحاً يعبر عن جوهر هذا العصر فلعله "الوقت". الوقت ذلك الشيء المحسوس الذي تمر من خلاله تفاصيل حياتنا سواءً التي عشناها سابقاً فنطلق عليها "الماضي" أو "التاريخ" فترى الأمم في هذا العصر قد اهتمت بتفاصيل تاريخها وماضي أسلافها وأبرزت منه ما تتفاخر وتعتز به. فتستمد الشعوب والأمم من ماضيها منجزاتها الفكرية والحضارية ومنجزاتها التوسعية "العسكرية"، وتستحضر تلك المنجزات كسلاح ثقة في وجه تحديات الحاضر والمستقبل لتجعله قاعدة وأساساً في صناعة ما يميزها عن باقي الأمم. أما المستقبل وهو جزء آخر من تلك المنظومة، فهو يمثل الآمال والطموحات والأحلام. المستقبل هو الدافع لعمل الإنسان وجهده والقيام بواجباته فالمحكوم عليه بالإعدام مثلاً ينعدم لديه الإحساس بالمستقبل فلا ترى له توهجاً أو نشاطاً.
 
أما تفاصيل حياتنا التي نعيشها وما يطلق عليه اصطلاحاً "الحاضر" وهو الجزء الأهم من منظومة الوقت. وهو الجزء الذي تقع عليك مسؤولية صناعته وإدارته وهو الذي من خلاله تستطيع صنع مستقبلك القريب والبعيد ونجاحك وتميزك، أما فشل الإنسان في أداء هذه المهمة فيقتضي ضياع عمره وذهاب حياته سداً. فوقتك هو كنزك الخفي عنك الظاهر للمقابل فيدرك قيمته الخفية عنك ويستغله ليملأه بما يصب في مصلحته فيصبح وقتك طريقا معبداً يمر من خلاله للوصول لغاياتاه ويصنع أمجاده عن طريق ملأ وقتك بما يرفع شأنه ويزيد نجاحه وتميزه. ولذلك تجد الكل يتكالب ليأخذ شيئاً من وقتك "حاضرك" وليضفر بشيء من كنزك الثمين.

 

إن أخذ وقتك.. استحوذ على اهتمامك.. وبالتالي أصبحت على الأغلب تحت السيطرة يوجهك شعورياً ولا شعورياً حيث يشاء ومن ثم يصنع مستقبله ويحقق أحلامه وطموحاته من خلال شرائه لوقتك الحاضر

فكثير من الأشياء في هذا الزمان أصبحت تقدم مجاناً أو على الأقل إنها تبدو لنا مجاناً فمثلا يمكنك أن تجلس على التلفاز أو الإنترنت أو تتجول في المراكز التجارية لساعات طويلة من دون أن تدفع قرشاً واحداً.. ولكنك في الحقيقة تدفع ثمن "وهو وقتك". من وجهة نظرك قد يكون بخساً ولكن من وجهة نظرهم فهو ثمن يستحق أن يعمل من أجله بل ويوظف ويدفع مالاً لموظفين وشركات لا لشيء إلا ليأخذ جزأ من وقتك.. فوقتك يعني تسويقاً لمنتجاته سواء المادية منها أو الفكرية.. إنه زمن جمع الأنصار والحلفاء والجماهير لكسب الشهرة ومن ثم المال أو الجاه.

 

إنه زمن يجعلك تشتري شيئاً رخيصاً مقابل ثمن باهض ويشعرك أنك أنت الرابح من تلك الصفقة الخاسرة فالقناة التلفزيونية تدفع أموالاً طائلة وتشيد مؤسسات إعلامية مقابل أن تجذب انتباهك وتأخذ حيزا في حياتك.. وكذلك المواقع الإلكترونية التي تبذل الجهد والوقت من أجل نفس الهدف ولنتطرق لأحد عمالقة سراق الوقت في هذا العصر، ألا وهي مواقع التواصل الاجتماعي حيث تشير الأرقام الرسمية لشبكة "فيسبوك" إلى أن 85 بالمئة من أرباح الموقع تأتي من الإعلانات تلك الإعلانات التي ليس لنا الحق نحن كمستخدمين لهذه الشبكة في تحديد نوعيتها أو كميتها حتى أصبح الولوج لموقع فيسبوك لا يحتاج إلى رسم أشتراك شبكة الإنترنت فقد وفر الموقع في كثير من الدول بيانات اتصال مجانية عبر شبكات الاتصالات.

 
وكذا حال المراكز التجارية التي تبني وتزيين وتدفع أموالاً لا لشيء إلا لتأخذ بضع ساعات من وقتك فأصبح التنزه والترفه بالتجول في تلك المباني والمنشآت الضخمة.. نعم لأنه إن أخذ وقتك.. استحوذ على اهتمامك.. وبالتالي أصبحت على الأغلب تحت السيطرة يوجهك شعورياً ولا شعورياً حيث يشاء ومن ثم يصنع مستقبله ويحقق أحلامه وطموحاته من خلال شرائه لوقتك الحاضر..

فهل ما زلت تعتبر تلك الصفقة رابحة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.