شعار قسم مدونات

المصالحة كمشروع "حلمنتيشي"

blogs المصالحة الفلسطينية

لا تزال المسافة الفجة بين قرني الضبابة تثير حنق الشارع الفلسطيني وخاصة الغزيّ منه بصفته المتضرر الأول من مخلفات الانقسام الساحقة للآدمية والإنسانية، حيث تشهد الفترة الحالية ذروة الخلاف، هذا يضعنا أمام حاجة ماسة لقراءة ومراجعة في الأزمة بأبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية، وإن كان ليس للأزمة الحالية الآن بُعدا سياسيا يضاهي النتائج الاجتماعية الكارثية.

قرأت لفولتير يوما أن السياسة هي أول الفنون وآخر الأعمال، فوجدنا السياسي الفلسطيني زاهدا فيي الطرق على أبواب الفنون، منهمكا متهالكا في مضارب الشقاء والعناء. تأتي اتفاقات المصالحة في إطار تسويات فلسطينية داخلية من أجل رأب صدوع كبيرة على كافة المستويات الفكرية والإيديولوجية لمواجهة التحديات الإقليمية التي تعصف بقضيتنا التي بدأ يأفُل بريقها ويخبو وهجها بشكل ممنهج ومقصود عربيا ودوليا بعد ولادة شرق أوسط جديد وعدت به يوما وزيرة الخارجية كونداليزا رايس صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط.

اتفاق مصالحة وتسوية ينطوي على قضايا حياة وموت فلا تقل أساليب انهاء الاقتتال والجنوح إلى سلم شامل أهمية عن الاختلافات المفضية إليه، وبذا كان يتوجب العمل الواعي والدؤوب على انهاء الاقتتال، ليس فقط، ولكن بشكل لا يغري على نشوب صراعات ثانية، ولأن الأمور دائما تسير بالشكل الأمثل مع الجهات التي تستطيع تحقيق الاستفادة المثلى من كل شيء، كان العوار الذي تثبته هذه المرحلة في النوايا والتطلعات المرجوة خير دليل على الخلط والتخبط وتشظي النوايا.

حال الشارع الغزي في تلقي النتائج فمن ثم التعامل معها تعكس حالة يأس وتبلد قل نظيرها بين الأطباع البشرية، تلك هي طريقة التأقلم الرهيب والانسيابية الفجة للعقلية الفلسطينية العربية مع المصائب

شهدت الفترة الأخيرة عقد عدد من اللقاءات والمراجعات بين أطراف الضبابة تجاوز عدد اللقاءات والاتفاقيات التي جرت إبان الحرب العالمية الثانية، أسالت الكثير الكثير من الحبر ثم سرعان ما تبين للمتابع فيما بعد أنه زبدا ذهب جُفاء، وأنها حتى الآن لا تعدو كونها تمريناً على فنون عقد الاتفاقيات، نعم هو اتفاق مصالحة يتقمص أسلوب الشعر الحلمنتيشي الفكاهي المونولوجي الذي يحتال على اللغة والرقيب في آن معا، يمزج بين الجد واللهو يعتمد على المفارقات المفجرة للسخرية بل واتخذت السخرية شرطاً لإتمام هكذا اتفاق.

ونظراً لأن الصراع أياً كانت أسمائه وصفاته قد شهد انتهاكا قاسيا فاجرا للأعراف والعلاقات الانسانية وهتكا لأواصر الأخوة وتفتيتا للحمة الاجتماعية فإن هناك مهمة صعبة تتمثل في إيجاد أرضية مشتركة كافية لترميم وبناء علاقات جديدة على أساسات وثيقة، فليس أصعب من أن يفي اتفاقا بمعايير العدالة المطلقة بين طرفي صراع على أن يؤمن في الوقت ذاته الأمان الجسدي والنفسي فضلا عن الحاجة الإنسانية الأهم منه المتمثلة في التعويض عن حالات المعاناة التي لا يمكن اصلاحها بعد تعلق الأمر بالقتل وفقد الأرواح.

الاستقراء التاريخي يقول شيئين في عظيم الأهمية، الأول يتعلق بأسباب النشوء وهنا يأتي جرح غائر في الكف الفلسطيني الأجمع بحيث لا تعد الحاجة لتمكين القرار السلطوي وإن كان حقاً دستوريا مكفولا بالشرائع والقوانين دافعا لتوجيه السلاح للجبهة الداخلية تحت أي سبب من الأسباب فضلا عن كون ذلك القرار يأتي في ظل وجود احتلال، أي أنه قد يكون بلا قيمة حقيقية إذا ما تجاوزنا قضايا تسيير الأمور إلى قضايا المواطن المصيرية.

المصالحة ما هي إلا انتقام تاريخي وتعويض عن حالة الإفلاس السياسي التي يمر بها  كلاً من الطرفين، سيما وأن الطرفين أمعنا في تخبطات سياسية قادت كل منهما إلى الأسوأ
المصالحة ما هي إلا انتقام تاريخي وتعويض عن حالة الإفلاس السياسي التي يمر بها  كلاً من الطرفين، سيما وأن الطرفين أمعنا في تخبطات سياسية قادت كل منهما إلى الأسوأ
 

الثاني يتعلق بالدوافع حيث ظهر جلياً أن الاهتمام بشكل جدي بعملية التسوية لم يبدأ إلا بعد ان انقطعت السبل وجفت البدائل ونضبت الخيارات بعد التغييرات الإقليمية التي شهدتها المنطقة بعد ما يسمى ثورات الربيع العربي وبعد تلك الأحادية التعسفية التي لاقها الرئيس محمود عباس من الجانب الإسرائيلي في ظل فترة ترأس حكومة حزب الليكود الاسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو الشهير بإعاقته لمفاوضات واي ريفر التي كانت إبان عهد عرفات كما يرجع العار إليه في قضية نفق السور الغربي للمسجد الأقصى عام 1996، يأتي في نفس الإطار التوتر الذي شهدته علاقة حركة حماس مع عمقها الاستراتيجي المتمثل بمحور الممانعة بعد الثورة السورية وانسحاب حماس من المشهد، القرار الصائب والمبارك بإذن الله.

لا ريب أن هناك أسباباً وراء النفور من التسوية يتمثل في محورين مهمين الأول يتعلق بنوايا الطرفين بتحقيق النصر لا التسوية في الكثير من الجزئيات، سيما وأن هذا النصر يرونه انتقاما تاريخيا على طريقة الثعلب الذي جاوب الأسد يوما حين سأله "من علمك هذه الحكمة فأجاب رأس الذئب التي طارت " إذا فهو انتقام تاريخي من جهة وتعويضا عن حالة الإفلاس السياسي التي يمر بها كل منهما من جهة أخرى سيما وأن الطرفين أمعنا في تخبطات سياسية قادت كل منهما إلى الأسوأ.

والمحور الثاني يتعلق بالخارطة الذهنية للقاعدة الشعبية التي تخوض غمار الانعكاسات الفاشلة غالباً، فحال الشارع الغزي في تلقي النتائج فمن ثم التعامل معها تعكس حالة يأس وتبلد قل نظيرها بين الأطباع البشرية، تلك هي طريقة التأقلم الرهيب والانسيابية الفجة للعقلية الفلسطينية العربية مع المصائب والكوارث، فالمشكلة إن خرجت من طورها التقليدي فهي أمام شكلين متقدمين لها، مصيرها إما مأساة وإما أمل، تشير المآسي إلى محدودية الأفكار والبدائل مما ينجم عنه ترديا وتدهورا على كافة الأصعدة ( ولا نرى غزة بعيدا عن هنا)، أما الآمال فهي المفاجآت الحميدة المرجوة من واقع كئيب. يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش "إننا مرضى بالأمل وعاطفيون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.