شعار قسم مدونات

للجنة ثمانية أبواب.. وللتدين ألف باب

blogs - sky

كثيرًا ما نسمع في مجتمعاتنا الإسلامية وصف المواطنين لأحدهم بأنه متدين، فهو مسلم، ملتحٍ، يحافظ على السنة النبوية والشعائر الدينية، كما أنه يحافظ على صلواته في المساجد، تراه صائمًا للنوافل، زاهدًا في الدنيا ومَلَذّاتها. هذه الصورة النمطية للتدين أرسلت رسالة للمسلمين مفادها أن من يُقصّر في هذه الأمور لا يُعَدُّ متدينًا أو ملتزما بدينه، وإن كنّا -قبل أن نناقش أي مظاهر أخرى للتدين -ندعو للالتزام بهذه المظاهر التي حث عليها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، إلا أننا يجب أن لا يغيب عن ذهننا أن هذه الصورة من صور التدين هي مشهد واحد، يضاف له آلاف المشاهد والتصرفات التي تُعَدُّ من أجمل مظاهر التدين.
 
قد يكون أحدنا مقصّرًا في صلاته في المسجد، أو أنه لا يملك جَلَدًا كبيرًا على بعض العبادات، مثل قيام الليل أو الصوم، وقد يعاني كثيرٌ من المسلمين من ضعف همتهم أمام غض البصر أو حفظ اللسان من الغيبة والنميمة وغيرها من الأمور التي أمرنا الله بالالتزام بها، وهنا يجب أن نوضّح لكل من يقصّرُ في هذه الأمور أن الإسلام فتح الخيارات على مصراعيها أمام المسلمين من أجل اكتساب الحسنات وتكفير السيئات، فخيارات التدين أمام المسلم لا تُعَدُّ ولا تحصى، وبإمكانه في كل خطوة يخطوها في حياته اليومية أن يكون نموذجًا رائعًا وحضاريًّا للتدين.

 

أضع بين أياديكم بعض المظاهر التي هي من أجمل مظاهر التدين، والتي تغيب عنا في كثير من الأحيان:

الموظف المتدين

لا يمكن -بأي حال من الأحوال -أن أعتبر الموظف الذي لا يحرص على خدمة المراجعين أو الحفاظِ على متطلبات وظيفته منه شخصا متديّنًا، ذاك الموظف الذي يترك شخصًا مُسنًّا في الانتظار من أجل أن يذهب للوضوء حتى يحافظ على الصلاة على وقتها هو بلا شك لديه فهمٌ خاطئٌ للدين وللتدين، الموظف الذي يترك الناس في طوابير الانتظار وهو يتسلى مع زملائه أو على الإنترنت هو بلا شك قد ضيّع بوصلة التدين، وذهب بعيدًا عمّا يطلبه الإسلام منه. قد تكون مقصّرًا في بعض العبادات، ولكنك موظفٌ متفانٍ في خدمة الناس، صدقني أن الله يرفع من مقامك مقابل ما تقدمه لخدمة الآخرين.
 

سائق السيارة المتدين
بعض الناس يعرف نفسه أنه (شَرِّانيٌّ) مؤذٍ لغيره، فيكون من أجمل مظاهر تدينه هو ضبط نفسه عن إيذاء الآخرين بالقول أو الفعل

هل فكرت يومًا أنّ هناك فرقًا بين المسلم المتدين وغير المتدين في سياقة السيارة؟ فالمتدين يلتزم بتعاليم المرور التي وجدت للمحافظة على حياة المواطنين، وخاصة قضية السرعة والإشارة المرورية وغيرها، سائق السيارة المتدين تراه بشوشًا يحافظ على تبسمه في وجه إخوانه، ويعطي الطريق حقّه، لا يمكن أن يسمح لنفسه أن يركن سيارته في موضع يؤذي غيره، تراه يحرص على أخذ الناس وتوصيلهم في طريقه، هناك مئات المشاهد اليومية أثناء السياقة سيتغير سلوكنا تجاهها إن تذكرنا أن الله يثيبنا على ما نفعله.
 

مساعدة الآخرين

من أجمل مظاهر التدين الالتزام بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فعن ابن عمررضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أوتقضي عنه دينًا، أوتطرد عنه جوعًا، ولَأَن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرًا، ومن كَفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل).
 

كف الأذى عن الآخرين

بعض الناس يعرف نفسه أنه (شَرِّانيٌّ) مؤذٍ لغيره، فيكون من أجمل مظاهر تدينه هو ضبط نفسه عن إيذاء الآخرين بالقول أو الفعل، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا)، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَجِدْ؟ قَالَ: (تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ)، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ؟ قَالَ: (كُفَّ أَذَاكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَنْ نَفْسِكَ).

 

التدين الاجتماعي

من خلال صلة القربى، والإحسان إلى الجيران، وعيادة المريض، وإغاثة الملهوف، ومساعدة الفقراء، وغيرها.

 

كل هذه المظاهر هي مظاهر رائعة للتدين لا يقل أجرها عن الصلاة في المساجد والصيام وغيرها من العبادات. هذه بعض الإشارات تسهم في إعادة صياغتنا لمفهوم التدين والعمل الصالح، تذكرنا بقوله تعالى "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". فالمسلم يحمل رسالة ربّانية عظيمة لعمارة هذا الكون، يسهم في عمل الخير أينما حل وحيثما ذهب، هو كالصيب النافع أينما حل نفع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.