شعار قسم مدونات

هكذا ضعفنا بعد قوة وانتكسنا بعد مجد!

blogs أطفال الحروب

وهزّت جوارحي ذات ليلة كلماتُ أمي وهي تسرد على مسامعي قصّةً لرسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يُواسي ويحنو على طِفلٍ كان قد مات له عصفور صغير.. لم أستطع حينها كبح خيالي الذي أبى إلاّ أن يتخيل الموقف بكل تفاصيله.. رُحت أسألُ وأستفهمُ، تُراه كيف جلس!؟ كيف حنى!؟ بأي نظرة رمق الطفل فأسكن بها ألم قلبه!؟ واليوم.. وفي وسط ما نعيشه من هرج ومرج لامنطقيين، واستباحة باردة لدماء المسلمين بعضهم لبعض، رَكَنتُ لنفسي هُنيهةَ.. تجردت من ذاتي واستسلمتُ لسيلٍ من التساؤلات.. "ماذا لو كان النبي بيننا اليوم؟"، ماذا لو كان على مسمع ومرأى من هذا الدمار، القتل، وهتك الأعراض الذي يمارسه المسلمون على المسلمين!؟ ماذا لو شهِد بعينيه وبقلبه حال أمّٓته اليوم!؟

ثم استرسلتُ.. تُراه من كان سيُواسي؟! وعلى من كان سيحنو؟! أتُراه ينظر إلى وُجوهنا؟! وإذا نظر فبأي نظره سينظر؟! نظرة حزن ورأفة لحالنا؟! أم غضب وسخط لخيباتنا؟! أعلمُ وعلى درايةٍ أني لا أرتقي للجلوس في حَضرتك، وليس من مثلي يُخاطبكَ ويحاكيك ولو خيالاً، لكن الفؤاد ضاق وامتعضٓ لأرواح بريئة اغتُصبت طفولتها.. فهُجِّرت، عُذِّبت، قُتِلت على مرأى منا ونحن بلا حراكٍ هامدون، كم نُغيرًا شكى وبكى يا رسول الله وكم نُغيرا انكسرت روحه وامتلأ قلبُه الصغير هما وحزنا وألما ونحن عنه عمُون صامتون.

ما أحكيك يا رسول الله! أأحكيك ذاك الذي يجرُّ شرايينه وقد أَمَضَّه الحزن والألم قد سقط وهوى كل ما به أرضاً إلا الجسد.. أم أحكيك صاروخا يزن أطنانا وأطنانا من الحديد يخترق جسدا هزيلا صغيرا لا حول له ولا قوة فيدكه دكا. أم حال الطفلة التي بكت تناشد أمها جوعًا ولم تعي صغيرتي بعد أن البكاء لا يوقظ الموتى، فأمها الملقاة بجوارها اليوم عصيٌ عليها إطعامها. ماذا أحكيك!؟ أحكيك التي سلّمت للبارئ روحها وهزمتنا جميعا بنظرة واحده نظرت بها الى الله وكأنها كانت تشكونا إليه. احتضنت أختها بقلب أم ووهبتها كل أنفاسها فاختنقت فخرا وقوة واختنقنا خزيا وعاراَ..

أين حال أمتك اليوم من حالها بالأمس؟! أفلتنا ما تركته فينا (كتاب الله وسنتك) فضعُفنا بعد قوة وانتكسنا بعد مجد وسُؤدد.. نأبى النهوض بعد كبواتنا، ونهاب أن نُفارق ضعفنا وانكسارنا

لن أحكيك يا رسول الله بل سأبكيك حالهم.. أبكيك جثثهم ملفوفة بقماش رث وأكياس باليةٍ مصطفة كالدواجن لا تكاد تُميز بينهم إلا ببضعة أرقام طُبِعت على جباهم الصغيرة بدل أن تُطبع عليها القُبَل.. أبكيك دموعهم، خوفهم، جوعهم، بردهم، حزنهم، ضعفهم، وقيلة حيلتهم، أبكيك أمتك يا رسول الله. أكاد أراك يا سيدي بيننا اليوم، وجهك مُحمّر من الغضب وعيناك تنظران لحالنا بحزن اختلطت به الحسرة، تسأل أين أُمّٓتي!؟ أين ما تركتُ فيكم!؟ أين ما أتممته لكم؟! أين من بكيتُ خوفا عليهم واشتقت لرؤياهم قرونا قبل أن أراهم!؟

عُذرا رسول الله.. فما ندري ما نُجيب.. استوحشناك يا رسول الله وكم نتمنى أن نهاجر من هذه الكوابيس إليك. ونرى وجهك الكريم ولو حتى حُلما.. ليس هروبا من عالم الباطل ولا جزعا لقضاء الله، بل شوقا إلى عالم الحق وراحة من هذه الفتن التي تقع خلالنا كوقع المطر. قُلتَها فصَدقت يا رسول الله.. قلتها "توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. أومن قلة نحن يومئذ؟!.. بل أنتم كثير ولكن كغثاء السيل". ها نحن اليوم غثاء سيل لا قيمة له ولا نفع منه.. قلتها "ينزع الله المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن" وها نحن هان علينا ديننا فهُنا، والناظر لأمتك اليوم تتقطّع نِياطُ قلبه ألما وحسرة عليها.

قلتها "تضيع الأمانة إذا أوسد الأمر لغير أهله".. ضاعت الأمانة يا رسول الله، وها نحن اليوم نُقاد ولا نقود، نُساد ولا نسود، نأتمن الخائن منا ونُخوِّنُ الأمين، وُلي علينا رُوَيبِضاتُنا فما خافوا الله فينا ومزَّقونا شراذم تإنُّ متفرقة في كل صوب.. قلتها "ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم كما فتحت على الذين من قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"..

 

أين حال أمتك اليوم من حالها بالأمس؟! أفلتنا ما تركته فينا (كتاب الله وسنتك) فضعُفنا بعد قوة وانتكسنا بعد مجد وسُؤدد.. نأبى النهوض بعد كبواتنا، ونهاب أن نُفارق ضعفنا وانكسارنا وكأننا أدمنا حالنا واستصغناه، آثرنا الإيمان بالكلام العنتري الكاذب والبطولات الزائفة على أن نتبع الصراط المستقيم.. وكحال غريق يستجدي النجاة أكاد أسمعك يا رسول الله والرحمة واللين يتخللان كلماتك تقول قول من لا قول بعده.. قول الله عز وجل "يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك" هنا يسكت الكلام وتقف سياط الجَلد فتسكُن الجراح قليلا، نرضى بحالنا ابتلاءا حتى نصحو من سباتنا ونُدرك أننا كما قيل كحبات الجوز لا بد لنا أن نُهَشَّم حتى نظهر.. علّنا نُخلص بعدها لله تعالى ونرفع راية هذا الدين عاليا كما يُحب الله عز وجل ورسوله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.