شعار قسم مدونات

رواية "الجهل".. كيف نظر كونديرا للاغتراب والحنين للوطن؟

blogs - syrian family

"كضربات فأس تسم التواريخ العظيمة القرن العشرين الأوروبي، بأخاديد عميقة، الحرب العالمية الأولى، والثانية، ثم الثالثة وهي الأطول والمسماة باردة"

(كونديرا.. رواية الجهل)

   
البعد عن الوطن ومكابدة الحنين إليه، الاغتراب والابتعاد عن الأهل، ومكابدة لوعة الاشتياق لهم، التوق إلى استنشاق نسيم تراب الوطن، حلم العودة إليه والخوف من الاغتراب من جديد، اغتراب هذه المرة سيكون داخل الوطن! أن تصبح وسط أناس وأنت غريب عنهم، لا تعرف أحدا منهم، يفارقونك في اللغة والملبس، الاهتمام وأنواع الطعام، أمور بسيطة لكنها ذات دلالات عميقة، لا يمكن أن تدرك مداها إلا إذا قاسيت الابتعاد عن الوطن، لكن ما السر الذي يربطنا بأوطاننا؟ وهل فعلا يمكن للمغترب أن يعود ويعيش حياته كما كان، أم أنه تستحيل العودة الحقيقية من جديد، بل كل محاولة لذلك فهي لا تعني سوى الاغتراب من جديد؟..
   

لا يمكن أن تخوض عوالم كونديرا بدون معرفتك بتاريخ بوهيميا منبع إلهامه، سئل ذات مرة عن هذا الأمر، فأجاب بأن الأمر يتطلب معرفة ولو عامة بتاريخ بوهيميا، لذلك نجد نصوصه ممزوجة بألفاظ ذات مدلول تاريخي، فهو مثلا يفضل استعمال اسم بوهيميا على استعمال تشيكوسلوفاكيا، كما أنه يستعين بنصوص من العهد القديم، ثم من التراث اليوناني، حتى في نصه ذا، نجده أفرد فصلا لمدلول اشتقاقات كلمة الحنين، من اللغات الأوروبية، من ذلك أنها تعني في الكلمة اللاتينية الجهل، فكأن الحنين هو مكابدة الجهل، فأنا غريب ولا أعرف ما يجري في بلدي، وأنا بعيد عن أهلي ولا أعرف ما يحدث لهم، فيصبح الحنين وكأنه مكابدة الجهل.

   

عندما كنت أتابع الكوارث التي تحل ببلداننا العربية، لم أكن أكترث إلى عدد الضحايا، فأولئك ربما قد كان القدر أرحم بهم لأنه اختارهم، لكن كل ما كان يؤلمني أكثر هو رؤية أولئك المشردين

يفتتح كونديرا روايته بحوار بين إرينا وصديقتها، وهي تسألها هل ستعود إلى بلدها، هكذا مباشرة يضعنا في معمة الإشكال، أو الأزمة، ليثير في نفوسنا أسئلة من الوهلة الأولى، ثم ينصرف ليزودنا بمدلولات اشتقاق كلمة الحنين، على المستوى المنهجي يبين كونديرا عن دراية عالية وإلمام كبير بأساليب السرد، التي تأخذ بلب القارئ وهو غير مدرك للوصفة السحرية التي يستعملها كونديرا لذلك كي يجذب قراءه.
    

إرينا فتاة تشيكية من براغ، هاجرت أيام الاجتياح الشيوعي لبلدها إلى باريس، استقرت هناك ولم تعد تربطها أي صلة بوطنها، بل ظلت فقط كوابيسه تراودها كل مساء، كما أنها تحن إلى جمال وروعة بلدها، هي في الطريق مثلا فتتذكر طريقا بين الحقول، أو شارعا مرصعا من شواريع براغ الجميلة، ليست إرينا وحدها التي كانت تعاني من هذا التناقض، بل الآلاف من المهاجرين تراودهم الأحلام ذاتها، كانت آثار الحرب كارثية على المجتمع الأوروبي، فليس الكارثة كانت في عدد الضحايا فقط، بل كانت أشنع على من ظلوا هناك، وعلى من هُجّروا قسرا أو هاجروا.

   
عندما كنت أتابع الكوارث التي تحل ببلداننا العربية، لم أكن أكترث إلى عدد الضحايا، فأولئك ربما قد كان القدر أرحم بهم لأنه اختارهم، لكن كل ما كان يؤلمني أكثر هو رؤية أولئك المشردين، أولئك الزاحفين في الصحاري، وأولئك الذين يخوضون لجة البحر الهائج، وأولئك المعذبون نفسيا داخل الأوطان الجديدة، أولئك الذين سيتخذ الساسة منهم قضية للمساومة، وأولئك الذين سيبدؤون حياة داخل وطن جديد، وطن ينظر إليهم على أنهم قتلة وهمج، وطن سينظر إليهم على أنهم قد حلت بهم اللعنة فهم غير مرحب بهم فيه، وطن سينظر إليهم أهله على أنهم دونهم في كل شيء، ومن ذلك فهم يستوجبون منهم الشفقة والعطف، وليس المودة والتكافل والرحمة، هذا ما كان يعيشه المجتمع الأوروبي تماما، وهو بعض مما يحاول رصده كونديرا في نصه ذا.

 

   undefined

 
يقرر غوستاف صديق إرينا السويدي، السفر إلى بلدها براغ، ويصطحبها معه لفترة وجيزة، فيشتعل ذاك البركان من الأحاسيس في نفسها، وتعاودها الأحلام والهواجس ذاتها، لم تكن إرينا تريد العودة، فهي قد اقتنعت بأن بلدها باريس، لأنها قد قطعت كل صلتها مع بلدها بوهيميا، حتى تلك الذكريات لم تعد تتشاركها مع أحد، والذكريات إذا لم نشاركها مع الأصدقاء تموت على حد تعبير كونديرا، وإذا لم تعد لنا ذكريات في الوطن لماذا سنعود، غير أنها ستعود إلى وطنها، ومن حينها ستكابد عناء الاغتراب من جديد، فهي لم تعد تتزيى بزي أهل بلدها كما أنها لم يعد لها نفس الاهتمام الذي يشغل بال مجايليها ممن فضلوا المكوث فيه، كل ذلك سيشكل لها معاناة جديدة، وبذلك فإنها ستكابد عناء الاغتراب من جديد، وكأن كونديرا يرى أنه تستحيل أي عودة حقيقية للوطن.

    
نص جميل يعالج الكثير من القضايا، حول الاغتراب والحنين إلى الوطن، آثار الشيوعية على الانسان الأوروبي، التشظي الهوياتي الذي عاشته المجتمعات الأوروبية، بل ورصد جانب من آثار الحروب غير المرئية على الانسان الأوروبي، نجد في المقتطف أعلاه تركيز كونديرا على هذه الحوادث الجسام، الذي وسمت تاريخ أوروبا، فكان أن شكلت أزمات اجتماعية، نفسية، سياسة، لكنه يرصد لنا الأزمات ذات الجانب النفسي الذي يعانيه الفرد الأوروبي، والذي كان من مخلفات آثار هذه الحروب وغيرها من الحروب المحلة كالحرب الأهلية الاسبانية وغيرها..

    
الروائي التشيكي من الصعب الحديث عن أعماله، ذلك لأننا حتى لو قرأناها ثلاث أو أربع مرات، لا ينفتح لنا من أسرارها إلا مقدار يسير، لأننا لكي نسبر عوالم أعماله يجب أن نكون متسلحين بعدة أمور أهمها المعرفة الشاملة لتاريخ أروبا عموما، وتاريخ التشيك على وجه الخصوص، موطن الإبداع والإلهام المدينة الهادئة، التي وهبتها الطبيعة جمالا ساحرا، كما أنه يتطلب منا كذلك معرفة بعلم النفس وعلم الاجتماع وغير ذلك، أقول هذا لمن أراد أن يتذوق النص، ويلم بدقائقه، فكونديرا دقيق في تعبيراته، كما أنه ذكي في توظيفه للكثير من الأحداث والوقائع، لذلك فالتعامل مع نصوصه يقتضي الحرص الشديد، كما أن الاقتصار على عمل واحد لا يكفي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.