شعار قسم مدونات

التطبيع مع الموت في سوريا

blogs سوريا
ذلك الطفل الذين مات أصغر من الحرب، كان ابنا لعاشقين جمعتهما قصة حب في سنوات الجامعة، ولم تمهلهما الحرب كثيرا بعد أن تزوجا في سنة 2010. وكانا يفكران بكل التفاصيل مثل جميع الآباء الذين يُرزقون بطفل للمرة الأولى. في البداية، كان السؤال "هل سيرزقنا الله ذكرا (مثل السلام) أم أنثى (مثل الحرب)؟". لم يمهلهم الموت ليطرحوا أسئلة أخرى، بل أجابهم من بعيد "كلكم سواسية أمامي". في إحدى الليالي في زمن الحرب والحب، سقطت قذيفة عمياء أسكتتهم جميعا للأبد. لم يتبقى لهما أحد في هذا الوطن، لقد سقطوا جميعا في السنوات السبع الماضية. ومن نجا منهم، لجأ إلى بيت أحد الأصدقاء في لبنان أو هاجر إلى أوروبا. لم يكن لهما سوى صديق "محايد" قال لهما ذات يوم "أنا لست معارضا ولست أسديا، لكنني لن أحمل البندقية في وجه أحد".

   
إن أخطر الناس على فكرة ما، هم أولئك الذين يقفون في منتصف الطريق بين أعدائها وأنصارها. وعندما يتعلق الأمر بقضية شعب، يصبح الحياد ضربا من ضروب الخيانة المشروعة. وإذا كانت قضية ذلك الشعب إنسانية، فإن الخيانة المشروعة تصبح شكلا من أشكال العداوة. إن المحايد رجل يقف عاجزا في منتصف الطريق بين قذيفة في السماء وحذاء طفل لا زالت جثته عالقة منذ أيام تحت الأنقاض. إن المحايد رجل يقف في منتصف الطريق بين صرخة أمه الثكلى وذكرى إخوته الذين لحق بهم. إن المحايد رجل خذل القضية والمدافعين عنها في الوقت نفسه. 
    

في زمن الحرب تفقد الأشياء معناها الحقيقي، وتصبح كل التفاصيل فعل مقاومة أبدية قبل أن "تضيع القضية بين تخلي الجبناء عنها، وركوب الانتهازيين عليها"

كان أحد المقاتلين في ساحة المعركة يردد "يجب عليك أن تختار الآن وللأبد في صفّ من تقف أنت؟ لا زالت هناك رصاصة واحدة في بندقيتي وآلاف الأعداء وأنت". لا أذكر من قال "أنت لست مسؤولا فقط عن الأشياء التي قلتها، بل أنت مسؤول أيضا عن الأشياء التي لم تقلها حين كان يجب أن تقولها". فما أكثر الأشياء التي كان يجب أن نقولها منذ بدأت الحرب قبل أكثر من ست سنوات في سوريا، لكننا سكتنا إما بسبب الخوف أو لأن الموت صار خبزنا اليومي الذي نقتات عليه؛ نتصفح جريدة الصباح فتصادفنا أسماء أشخاص عاديين جعلتهم الحرب مصادفة مشاريع أبطال في عناوين الصحف اليومية. وفي المساء، نفتح شاشة التلفاز فتحدثنا لغة الأرقام عن عدد القتلى والجرحى، وقد نسينا أن أولئك الذين يموتون وراء الشاشة المستطيلة هم بشر مثلنا تماما من لحم ودم ووطن. لكن لا أحد حدثنا يوما عن الضحايا الذي سقطوا أمام الطرف الآخر من شاشة التلفاز.

   
إن ما يحدث في سوريا ليس قضية السوريين وحدهم، وما يحدث في اليمن ليس قضية اليمنيين وحدهم، وما يحدث في غزة ليس قضية فلسطين وحدها، وما يحدث في فلسطين ليس قضية العرب وحدهم، بل هو قضية ملايين البشر الآخرين الذين ماتوا من الداخل على قارعة الحرب التي لا تعني لهم شيئا. ولذلك ربما كان غسان كنفاني يردد "إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت إنها قضية الباقين المنتظرين بمرارة دورهم لكي يكونوا درسا صغيرا للعيون الحية".

    undefined

 

في زمن الحرب تفقد الأشياء معناها الحقيقي، وتصبح كل التفاصيل فعل مقاومة أبدية قبل أن "تضيع القضية بين تخلي الجبناء عنها، وركوب الانتهازيين عليها". إن حادثة مقتل بائع العرقسوس بغارة جوية في المساء، يمكن أن تتحول في الصباح إلى عنوان رئيسي في صحيفة تعاني من أزمة مالية منذ سنوات، أو حوارا تلفزيونيا بين سياسيين سوريين يعيش أحدهما في باريس والآخر في لندن، اختلفا حول موقف المعارضة من هذه الحادثة. 
  
إن مشكلتنا الحقيقية في هذا العالم هي أننا تجردنا تماما من إنسانيتنا. وصرنا نعتقد أن الرصاصة لا يمكن أن تقتلنا إلا إذا وُجهت إلى صدورنا العارية. ولذلك قال أحدهم "إذا كنت تشعر بالألم فأنت حيّ، أما إذا كنت تشعر بآلام الآخرين فأنت إنسان". لقد سقط العرب ألف مرة في اختبار الإنسانية، وصار يجب أن نتنازل عن الخطابات التي تقيم العالم ولا تقعده. 
  
هذا العالم يزداد وقاحة كل يوم، لقد صرنا بحاجة لبشر آخرين، تؤلمهم مشاهد الموت والحرب والجوع، وحاكم يمكن أن تقتله وردة، مثل الشاعر ماريا ريكليه الذي قال "هذا العالم نشيده فينهار، ثم نشيده ثانية فننهار نحن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.