شعار قسم مدونات

هكذا قتلني ميلان كونديرا!

مدونات - حفلة التفاهة
كتب الروائي التشيكي الشهير ميلان كونديرا في إحدى مذكراته: كان لي صديق يدعى أفيناريوس وهو بروفيسور مرموق، لكنّه كان يحمل سكيّنا ويخرج ليلا لتمزيق إطارات السيارات، وعندما سألته كيف يفعل هذا وهو البروفيسور الرصين في نظر المجتمع، اجابني في شيء من الهدوء بأنّ الفنّ يبدأ من التفاصيل التي نراها غريبة. ثمّ أضاف كونديرا: وكان هذا مدخلا لتجاذب أطراف الحديث حول مفهوم الفن إلى أن وصلنا إلى موضوع الأدب ومنه إلى الرواية وطريقة الكتابة الروائية، حينئذ قلت له بأنه لا ينبغي أن نشبه الرواية بسباق درجات، بل مأدبة نتذوق فيها ألوانا من الأطباق. تذكرت هذا وأنا أعيد تصفّح رواية "حفلة التفاهة" لكونديرا، وكان أوّل تعليق لي حينها: لقد قتلني الرجل. ونشير هنا إلى أنّنا لا نسعى في هذا المقال إلى تقديم قراءة عاشقة للرواية، ولكن نسعى لتسليط الضوء على واحدة من أشهر الروايات التي أجمع النقّاد على لمسة العبقرية فيها.

  

 في البداية، كثيرا ما يعلق في ذهن القارئ بأنّ هذه الرواية تندرج ضمن ما يعرف بالأدب الكوميدي أو الستاند آب كوميدي أو الكوميديا السوداء، ولكن على النقيض تماما هذه الرواية هي شريان يدفق داخل فلسفة المأساة ولكن تحت عباءة الملهاة. ولكشف النقاب عن هذا الطرح، بين ربط المادّة السردية داخل الرواية بمفهوم الفكاهة، نطرح السؤال التالي: على اعتبار أنّ رواية حفلة التفاهة تدخل من باب الأدب الفكاهي، فما هي علاقتها بفن الرواية إذن؟

  

إذا كانت الرواية تبحث في الوجود، وهي كذلك فعلا، فلزام عليها أن تولي وجهها شطر التفاهة وتقديسها أصلا، لأن التفاهة ليست موضوعا هامشيا في هذا الوجود، بل هي على العكس تماما

وللإجابة عن هذا السؤال نعود إلى كونديرا نفسه الذي يؤمن بكون التفاهة التي تسود العالم هي ابتكار خاص بالرواية ومنه تتم ولادة الفكاهة داخلها، وفي سياقها التاريخي نشير إلى كون هذه الرواية قد عايشت حيثيات مخاض فلسفي مع كلّ من رابلييه وسرفانتس. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار الفكاهة وفق هذه الرؤية هي جزء من ماهية الرواية وجوهرها وبنيتها الفنية والإنثروبولوجية، بمعنى على شاكلة محمود المسعدي كون الأدب مأساة أو لا يكون، يقول كونديرا الرواية فكاهة أو لا تكون أيضا. إذ يقدّم ميلان كونديرا للقارئ مثالا هو أشبه بشاهد من رواية جارجانتويا للروائي فرانسوا رابلييه، إذ يقول كونديرا في ما يشبه التعليق النقدي حول رواية جارجانوتيا: عندما يريد البطل بانورج أن ينتقم لنفسه من تاجر الخراف، الذي سخر منه، وهم على متن السفينة في عرض البحر، فيقوم بالآتي يشتري منه خروفا ويلقي به في عرض البحر، وبما أن الخراف معتادة على اتباع أولها، فإنها عمدت جميعا إلى القفز إلى الماء. وهنا تثور ثائرة التجار ويجن جنونهم، وهم يمسكون بها تارة من صوفها وتارة من قرونها ويجرّون هم أيضا إلى البحر.

  

لقد كان بانروج يمسك مجدافا بيده، لا لإنقاذهم، بل ليمنعهم من التسلق إلى السفينة، وهو يعظهم بفصاحة مبيّنا لهم بؤس هذا العالم وخير الحياة الآخرة وسعادتها، مؤكدا لهم أن الموتى أسعد من الأحياء. على أنه يتمنى لهم في حال أرادوا الاستمرار في العيش بين البشر، أن يلتقوا حوتا ما ويحدث لهم معه كما حدث للنبي يونس عندما التقمه الحوت. من هنا نتبين فلسفة الفكاهة المنبعثة من روح التفاهة داخل المنطق الشمولي لهذا العالم، هذا المنطق الذي يكفر به كونديرا أيّما كفر، وقد وسم هذا العالم بانّه حفلة كبيرة للتفاهة.

 

فالمسألة تجاوزت فن الإضحاك العادي، فهي ضرب من العبثية في هذا الوجود، وإذا كانت الرواية تبحث في الوجود، وهي كذلك فعلا، فلزام عليها أن تولي وجهها شطر التفاهة وتقديسها أصلا، لأن التفاهة ليست موضوعا هامشيا في هذا الوجود، بل هي على العكس تماما، هي فلسفة حياة داخل الجسد الروائي وخارجه، يقول كونديرا في هذا الخصوص مواصلا حواره مع البروفيسور أفيناريوس: التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب. وهذا غالبا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف درامية للغاية ولتسميتها باسمها. لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، يجب أن نتعلم حب التفاهة.

   
في الختام، لعلّي أذكر مقولة لكونديرا ذاته عندما وجّه له أحد النقّاد سؤالا ليس بريئا حول علاقته بالرواية، إذ أجاب في شيء من الدهاء الأدبي: يا صديقي، لنتوقّف عن النظر بجدّية إلى جدّية البشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.