شعار قسم مدونات

شهر رمضان والسقوط عند المنعطف الأخير

مدونات - مسلم مسجد يدعو دعاء

في مسابقات الجري التي تحتاج إلى مسارعة يتفاوت المتسابقون في تقديرات المسافة والتخطيط للوصول للهدف الأخير، منهم من يحسب المسافة ويخطط لها جيدا للوصول إلى النهاية من دون أن يفقد قواه وتنهار معنوياته، بينما آخرون يبدؤون المسابقة من دون تخطيط ونظر لنهاياتها، الحصيف من يضع الهدف نصب عينيه مع تخطيط جيد. أسوأ المتسابقين حظاً من يسقط عند المنعطف الأخير، من بدأ مجتهداً لكنه لسوء تخطيط أنهك نفسه قبل النهاية، من أهتم بتصفيقات الجمهور عن متابعة المسارعة، من شغلته علامات الطريق عن نقطة النهاية، لذلك كان سقوطه سيئاً وحسرته عظيمة.

 

لكل هدف والسير إليه معينات ومعيقات، فمن بدأ في سباق عليه أن يجمع أكبر عدد من المعينات وأن يجتنب معيقات السير نحو الهدف. شهر رمضان أفضل الشهور وأعظمها، فيه تنزل القرآن، كله فضل لكن النهاية فيه أعظم وأبرك، كيف لا وفي النهاية ليلة وصفها الله عز وجل بأنها "خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" فهي هدف والوصول إليه يحتاج إلى حسن تخطيط ومصابرة واجتناب لما يصرف عن قيامها التعرض لها

 

خير من ألف شهر
في الليالي الأولى من الشهر تكتظ كثير من المساجد في الأحياء بالنساء في مشاهد تسر الناظرين لكن ما إن تحل على الناس العشر الأخيرة تتناقص تلك الصفوف وفي بعضها تختفي

بين الله عز وجل أفضليته تلك الليلة وبين عظيم قدرها بأبلغ وصف حين قال: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)  تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) يترقبها الصالحون، يتطلعون أن تصيبهم نفحاتها وينالون من بركاتها، كيف لا وهي تفضل أعمال ثلاثة وثمانون سنة إن وافقها العبد وأقامها، يقول صلى الله عليه وسلم في شأنها (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا" قال ابن كثير رحمه الله تعالى أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر. كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في سائر الشهر قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر) أي أجتهد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره.

 

بعد هذا التحفيز في بيان فضلها وبيان ما أعد الله لمن أقامها يتكاسل قوم عنها، تصرفهم عنها الصوارف وتلهيهم عنها الملهيات، أولئك الذين يسقطون في النهايات فلنحذر من مثل هذه النهايات.

 

لا تحيوها في التسوق

الناظر لحال كثيرين يلحظ اجتهادا لهم في بداية الشهر لكن سرعان ما تشغلهم صوارف عن آخر الشهر وإحياء ليلة القدر، تأتي تلك الصوارف أحياناً على هيئة أعمال تخيل أنها في الخير وأحيانا في ما لا نفع له سوى الضر. أكبر شاغل يلوح للأبناء ومن يعول أسراً في آخر الشهر هو التسوق لتلبية طلبات الأسرة وقضاء حاجيات الأبناء، فتجد الأسواق تكتظ في آخر الشهر وكأنها لا تفتح أبوابها إلا في تلك الأيام، ولو عقل هؤلاء لتبين لهم أنهم ضيعوا في مقابل ذلك أفضل لحظات العمر التي قد لا تتاح مرة أخرى وهي أحياء الليالي العشر والتعرض لنفحات ليلة القدر. لو قدر الواحد فيهم تقديراً صحيحا يمكنه أن ينتهي من تلك الطلبات في أول الشهر، فليس لها ارتباط بآخر الشهر، لكنها صوارف الشيطان التي يزينها في تلك الليالي ليشغل بها ويصرف كثير من الناس عن إحياء تلك الليالي.
   

تجهيزات العيد

في الليالي الأولى من الشهر تكتظ كثير من المساجد في الأحياء بالنساء في مشاهد تسر الناظرين لكن ما إن تحل على الناس العشر الأخيرة تتناقص تلك الصفوف وفي بعضها تختفي كيف لا وقد شغل أولئك النساء شاغل كبير وحل بديارهن كرب عظيم، فيما يبدو لهن، وهو تجهيزات العيد والتحضير له، من مخبوزات ومشروبات وأعمال نظافة، كل تلك الأعمال تظهر في العشر، تحرم كثيرات من قيام ليالي العشر وتلاوة آيات الذكر، لكن لو أُحسن الترتيب وتعاون الكل لتم التجهيز للعيد في أول الشهر ولخلُصت ليالي العشر للقيام والذكر، أقول للأخوات تذكرن أن أيام رمضان (معدودات) وأن ليالي العشر فاضلات فيهن ليلة (خير من ألف شهر) ، ولعل من أدركت رمضان هذا العام تكون في المقبل من أهل القبور، فاحرصن على أحياء العشر.

   undefined

 

لنقتدي بهم

هذه بعض قصص الصالحين واجتهادهم في العشر ننثرها لعلها تكون دافعاً لنا في أن نجتهد في ليالي العشر، وكما قال الأول: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح: كان قتادة -رحمه الله- يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة. وروي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. قال ثابت: وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. كان أيُّوب السختياني يغتسِل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويتطيَّب.

 
أخيراً
ينبغي أن نذكر دائما قوله تعالى: "أَيَّامًا مَّعْدُودَات" وأن العشر فيها ليلة "خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، نسأل الله أن يكتبنا من القائمين الشهر إيماناً واحتسابا، والقائمين ليلة القدر إيمانا واحتساباً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.