شعار قسم مدونات

كيف نُفَعِّل قيمنا الإسلامية في المجتمع؟

blogs مسلمون يسلمون علي بعضهم
تدرس نظرية الأخلاق الإسلامية الأسس العقلية والدينية للقواعد والمبادئ التي ينبغي أن يعمل الإنسان بمقتضاها في مناحي الحياة المختلفة، مستمدة من مصادر الوحي، كما تدرس النظرية تجذر هذه الأسس في التصور الإسلامي عن علاقة الإنسان بالله، وعلاقته مع البشر، وتجيب بالضرورة عن إشكاليات فلسفية تساءل أسس السلوك الإنساني ومعاييره ودوافعه، ومصدر هذه المعايير. ومن هذه الإشكاليات معيار الخير والشر، ومصدر الإلزام الخلقي، ومفهوم المسؤولية الإنسانية وشروطها وعلاقتها بالحرية الإنسانية، وعلاقة الحرية الإنسانية بالحتمية والقدر، ومفهوم الواجب الأخلاقي وعلاقته بالخير الأخلاقي، وإمكان وجود الجزاء الأخلاقي، ونية الإنسان ودوافعه الموجبة لعمله، ومدى علاقة الجهد الإنساني بالدوافع الأخلاقية.

وبذلك تمتاز القيم والأخلاق في الإسلام عن غيرها من الفلسفات الوضعية التي تنادي بنفس القيم، أنها قيم عميقة مرتبطة ببعدها العقدي والإيماني، وإنسانية أصيلة بمعنى مطابقة هذه الأخلاق التي نادى بها الإسلام للفطرة الإنسانية والمرتبط أساساً بمحفزات الثواب والعقاب الأخروي. لكن بالرغم من هذا العمق الكبير للأخلاق الإسلامية، لا نجد تلك الفاعلية المطلوبة لهذه القيم وانعكاسها في سلوكنا اليومي وعلاقاتنا بالآخرين، بالرغم من كثرة الواعظين والخطباء الذين ينادون بمركزية الفضيلة وضرورة التمسك بها. 

وبالرجوع إلى المتصدرين للدعوة الأخلاقية في الإسلام، نلاحظ أن دعوتهم في العموم لم تعرف حتى الآن سوى نوعين أو ثلاثة من طرائق الغرس لهذه القيم، فهي إما نصائح ومواعظ عامة هدفها تقويم سلوك الشباب، وإما وصف لطبيعة النفس البشرية وخصائصها من نفس لوامة، إلى نفس أمارة بالسوء، إلى نفس مطمئنة، وإما تعريف الفضيلة وتقسيمها وترتيبها بحسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، كل ذلك ولم تتمحور المعالجات حول إرشادات القرآن الكريم وفلسفته العميقة والشاملة للأخلاق والقيم.

لا يمكن تفعيل الأخلاق الإسلامية إلا من خلال تضافر جهود الواعظ المصلح الذي يعمق الأخلاق من خلال خطاب الثواب والعقاب، ثم من خلال خطاب الفقيه

إن بين القيم من حيث تقريرها كمبدأ نؤمن به ونصدقه، وبين تقنينها كنظام عام حاكم للمجتمع، مسافة وسط ومرحلة انتقالية لابد أن تمر بها القيم حتى تتفاعل من خلالها على الوجه الأمثل، وهي مسافة إنضاج القيم فلسفياً. إن الفرق كبير بين عمل الفيلسوف والفقيه في إنضاج القيم وشد وعينا نحو أهميتها. فالفقيه يقوم باستخلاص فكرته بناء على قواعد الاستنباط الأصولي والمادة النصية التي يقدمه له المحدث، ويقوم بإنضاج القيم والمفاهيم من خلال الأحكام التكليفية الخمسة وهي الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. فلو سألت الفقيه عن حكم الشورى مثلاً، فإنه ينظر في أدلتها الشرعية النصية وأدواته الأصولية في توجيه خطاب الأمر ثم يحكم عليها أنها مندوبة غير واجبة ومعلمة غير ملزمة لولي الامر بناء على ما تقرر من قواعد ونصوص. 

أما الفيلسوف فعندما يواجه السؤال عن القيم الأخلاقية، فإنه يجيب بناء على حاجتها الحضارية وضرورتها النهضوية للمجتمع، وقيمتها في ضبط العلاقات الإنسانية، بما تحتويه من مصالح متصلة مباشرة بالإنسان الذي يلتزم بها، ذلك لأن طريقة الفيلسوف هي المنهج العقلي التي يتبعها الفلاسفة والتي تقوم على التعريف والتقسيم والبرهنة والاعتراضات ومن ثم تقديم الإجابات على الاعتراضات. فهو لا يتصور مثلاً أن نحقق نهضة وحضوراً حضارياً ومجتمعاً مستقراً بدون قيمة الحرية السياسية وإشراك المجتمع في صيغة القرار السياسي، فتكون الشورى بناء عليه واجبة ملزمة ولابد أن تخضع للمأسسة والتقنين ونظام الحماية بعد ذلك. وهذا يوجب علينا أن نعيد صياغة نظريتنا الأخلاقية بأدوات الفيلسوف وليس بأدوات الفقيه لوحدها.

لأنه لا يمكن تفعيل الأخلاق الإسلامية إلا من خلال تضافر جهود الواعظ المصلح الذي يعمق الأخلاق من خلال خطاب الثواب والعقاب الأخروي ويقررها كمبدأ، ثم من خلال خطاب الفقيه الذي يبين درجة المسؤولية التكليفية في الالتزام بالقيم بناء على الأدلة الإجمالية والتفصيلية التي بين يديه، ومن ثم يأتي جهد الفيلسوف العقلي ليكلل عمل الفقيه والمصلح ويبين المصلحة المادية الدنيوية المباشرة للقيم والمقاصد النفعية العائدة إلينا من التزامنا بهذه القيم. وهنا نجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يدندن حول علة التكليف بالقيم كمستند فلسفي ضروري ولا يكتفي بالسرد الوعظي لحمل البشر على التزامها بناء على الطمع في ثواب الجنة والخوف من النار فحسب.

ففي قضية مثل قضية الكذب يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات. فالقرآن الكريم عندما يمنعك من الكذب، الذي قد يحقق لك مصلحة تافهة، فإنه في الوقت نفسه يحميك من أن تكون ضحية لسيل من الكذب في مجتمع متحلل من القيم لا يتورع في نسج سيل من الأكاذيب التي تهدد أمن المجتمع. والقرآن الكريم حينما يمنعك من سفك الدم الحرام الذي قد يحقق لك مكسباً مادياً، ويرسخ مفهوم عصمة الدماء في المجتمع، فإنه في نفس الوقت يحميك من تحول المجتمع إلى مجتمع متوحش لا يعير أية أهمية لحرم الدماء. لذلك قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة. وكذلك عندما يحضك القرآن الكريم على التزام عقد التزمت به وصَعُبَ عليك الإيفاء به، فإنه بنفس الوقت يحض مجتمعاً كاملاً على الوفاء بعقودك بكل أفراده.

 تفعيل القيم في مجتمعاتنا لا بد أن يمر في عدة أطوار حتى نجني ثمارها ونعيد لها فاعليتها بدأ من تقرير المبدأ والإيمان به كأمرٍ تكليفاً من الله تعالى، إلى فلسفة مقصده وقياس مردوه
تفعيل القيم في مجتمعاتنا لا بد أن يمر في عدة أطوار حتى نجني ثمارها ونعيد لها فاعليتها بدأ من تقرير المبدأ والإيمان به كأمرٍ تكليفاً من الله تعالى، إلى فلسفة مقصده وقياس مردوه

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي أسلم على شرط أن يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا، تضح لنا فلسفة عميقة للقيم، وهي أن الإسلام حينما يمنعك من الزنا واستحلال أعراض الناس والذي قد يحقق لك شهوة عابرة مؤقتة، فإنه بالوقت نفسه يحمي عرضك من أن يكون مستباحاً في مجتمع متحلل من قيمة العفة.

من هذه الأدلة نجد أن فلسفة القيم في الإسلام تدور كلها حول تحقيق البعد الأمني للمجتمع، من خلال التزام أفرده الذاتي، وإن أمن المجتمع ينهار تماماً في الوقت الذي يتحلل أفراده من هذه القيم ويكون وبالها عامٌ على كل من نقض عراها وتحلل من ربقتها، وحتى يحمي الإسلام هذه المنظومة القيمية المحكمة من الهدم، كان لا بد من المؤيدات الجزائية والعقاب والقصاص، من أجل حماية أسوار القيم من كل من يحاول أن يتجاوزها ويهدمها ليُغرقَ المجتمعات بالفوضى والشقاء والتوحش لذلك قال تعالى في معنى شرعة القصاص: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة. وبذلك نفهم أيضاً مقصد الجهاد في الإسلام الذي جاء لتحقيق قيمة حرية الاعتقاد ومنع الطغاة من إكراه الناس على دين معين، قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) الأنفال، والفتنة هنا هي الإكراه على الكفر والشرك، وليس إكراه الناس على الإسلام.

إن تفعيل القيم في مجتمعاتنا لا بد أن يمر في عدة أطوار حتى نجني ثمارها ونعيد لها فاعليتها بدأ من تقرير المبدأ والإيمان به كأمرٍ تكليفاً من الله تعالى، إلى فلسفة مقصده وقياس مردوه النفعي المباشر أو غير المباشر على النفس البشرية الملتزمة به والمجتمع الذي يحرسه، وصولاً إلى تقنينه في شكل نظام عام يأخذ صيغة الإلزام القانوني، وانتهاءً بتقرير المؤيدات الجزائية التي تعاقب كل من يخالف هذا النظام ردعاً له وحمايةً لأسوار القيم من الانهيار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.