شعار قسم مدونات

قبس به القلب يصطلي

مدونات - المودة
يكفي أن تكتب سطرا في الحبّ ليخرج إليك نفر من الإنس يشكّكون في التزامك وآخرون يُعرضون عنك وعن منشوراتك كأنّ الله لم يغنك إلّا بهم، أو يتفرّغ لك جهاز استخبار يتولى مهمة الكشف عن الاسم والرسم، أو فرقة موسيقية تلقي عليك شيئا من الموشحات الرومانسية لتدغدغ سمات وجهك علّه يجيبهم بابتسامة تمشي على استحياء تقرّ فوزك بحبيب. يكفي أن تستعير بيتا شعريا جميلا من بيوت المتنبي التي تغنى فيها بسيف الدولة، أو بيتا للحمداني تغزّل فيه بالخمرة، أو مطلع شعر ملحون لجدتك تغنّت فيه بالحج والعمرة ليلتفّ حول رقبتك الرفيق وتسمع حولك الهتاف والتصفيق كمن خرج لتوّه من صالون الحلاقة متجها نحو صالة العرس ليُتمّ مراسم زفافه. يكفي أن تحمل بين يديك ديوان شعر لنزار أو تردّد قصيدة لعنترة وقيس لتُسأل عن عبلة وليلى وبلقيس. يكفي أن تذكر الحبّ بخير لتصبح قصعة طعام شهي وينعتك الرفاق بالأسير حتى وإن لم يكن لك في حبّ كذاك شاة ولا بعير. يكفي فقط أن تعشق اللغة لتُلغَى!

 
أمّا عن الكتابة في الحبّ يا أصدقائي فأعجبني قول نُقِل عن الجاحظ فيه: "الفرزدق زير نساء ومع ذلك لا نجد له فيهنّ بيت شعر، بينما كان جرير عفيفا لم يعشق امرأة قط وهو أغزل الناس شعرا. الأمر هو مجرّد لون أدبي يروق لهم ويجدون أنفسهم به." وإن كان لي في جرير تحليل آخر لكنني سأكتفي بقول الجاحظ الجميل. أن تكتب قصيدة غزل أو فقرة لا يعني بالضرورة أنّك واقع في حبّ أحدهم، إنّما أنت واقع في الحبّّ بحدّ ذاته ولذاته، وقلب لم تطأ أرضه قدم حبّ ولم تصفع جناحيه نسماته هو قلب عطش وسيشعر بالفرق يوم يرتوي منه. ولست حين تكتب فيه بفاقده بل أنت مترع به، هو فيك يفيض فيضا كشلال لم يبق له إلّا أن يعثر على مصبّه، وفي بحره أنت كالفلك تجري حتى تسكن إلى مرساها الصحيح.

  
لكلّ واحد منّا في قلبه زرّ مخصّص للحبّ دائم الخفقان، ينتظر فقط من يكبسه بإتقان. لكلّ واحد منّا في قلبه قصّة أبطالها نائمون ينتظرون ساعة الصفر ليستيقظوا، هي الساعة التي تؤول فيها كل انتصاراتك إلى ركن لم تبلغه إلّا بشقّ التريّث الطويل حين تذوب في أحدهم فتستسلم له وتعتنق روحه وتنتمي إليه. أتذكّر زميلة لي في الدراسة، كانت تطلب منّي باستحياء أن أكتب لها قصائدَ تطيّب بها قلب زوجها ولم أكن أمانع من الإسهام في ربط قلبين وشحن بطارية المودة بينهما، فأخبرها أنني سأكتب لها بقلبي اليمني، فمذ سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم "أهل اليمن هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا" أحببت وأنا من عشاق الرمز أن أصف قلبي باليمني، ذاك القلب الذي لا يتوانى عن الاستجابة لكلّ ما هو طيّب.

  

لا داعي لأن تتهمّ صديقك بالوقوع في حبّ أحدهم وحجب الأمر عنك، فالحبّ ليس جريمة تنصّ على عقد جلسة معه ومحاكمته، توقف عن إدانته وفقا للأصول القانونية التي منحتها لنفسك

حتى أنّني لم أحتفظ بتلك القصائد لنفسي وما عدت أتذكرها، ولم أكن أكتب إلّا للحبّ الذي أتلمّسه في داخلي دون الحاجة لأن أختبره. كيف أكتب أنا قصيدة غزل ولم أجرب الحبّ قطّ؟ سؤال لطالما حيّر الأصدقاء ولم يحيّرني يوما، لم أجرّبه ولكنّني أعرفه جيّدا حتّى لكأنّني اختبرته وهو يملي عليّ نصوصه وكيف لم أختبره وقد كان حاضرا معي طوال العمر، أستشعره في عيون من حولي واحتوائهم فتعرّفت على شخصيته القوية ونبرة صوته الشجي ولمساته العذبة وطيبه الندّي. ثمّ أنّنا ككتّاب عادة ما نقوم بالتقمص الوجداني، نتقمّص شخصية ومشاعر أبطال نصوصنا فنحسّها ونشعر بها ونعيشها ونتصرّف حسبها ونكتب بما يفيض منها فنستنسخها ورقيا حتى وإن لم نعش مثلها في الواقع الشخصي، فالخيال قطعة خصبة فيها ما فيها من الحياة الأخرى التي لم نعرفها يوما، وماذا عسانا نفعل حيال ما ينسجه قلب يمني؟!

  
الحبّ في داخلنا لا يحتاج إلّا لما يدير أزراره كما يدار المذياع لنستمتع بشيء من الألحان العذبة إذ هي ترقص مع كلمات قصيدة لغتها مشفّرة بعض الشيء لكنّها تؤدّي المعنى، تتّضح معالمها أكثر مع التجربة الشعورية. حتّى أنّ هناك من عاش قصة حبّ تاريخية ولم يستطع أن ينظم فيها سطرا وهناك من لم يعشها لكنه وجدها مكتوبة في داخله فلم يستطع عليها صبرا حين ألحّت عليه لتتسلّل إلى حضن الورق فقُدّر لها أن تنزف منه دواوينَ، القضية متعلقة بعملية الإدراك والقراءة الداخلية والمعالجة الوجدانية للحبّ مع ذكاء لغوي مبين. وأنا لما أتحدّث عن الحبّ هنا، أتحدث عنه بما يتداوله البشر البسطاء، حبّا وجنونا كان عند المحللين أو مودة ورحمة، فالناس كنّوه بالحبّ مهما كانت درجته وأحبّ أن أحلّق هنا مع سربهم.

 
لا داعي لأن تتهمّ صديقك بالوقوع في حبّ أحدهم وحجب الأمر عنك، فالحبّ ليس جريمة تنصّ على عقد جلسة معه ومحاكمته، توقف عن إدانته وفقا للأصول القانونية التي منحتها لنفسك، توقّف عن معاقبته بالعتْب والجَلْد، توقف عن استدعاء كتاباته وابتساماته المتناثرة ونشاطه الزائد شهودا عليه، توقف عن إلباسه ثوب المتهمِ والشهود والمحامي، توقف عن استجوابه فبعض الإجابات لم تخلق لأسئلة. واليوم وفي ظلّ ما نشهده من آفات عاطفية وليالِ الشكّ صار مجرّد ثبوت رؤية هذا البدر في حياته انجازا ومثل هذه الانجازات لا تخبّأ بل تعلن بميثاق غليظ، ميثاق نوقّعه مع من يستحقنا ونستحقه، فماذا لو هنّأته بالطريقة نفسها التي اختارها للاحتفال به دون أن تنبش قلبه وتحفر لسانه بفأس التحقيق ريثما يعلنه.

 

في الحبّ ستعلن أن أحدهم انتصر عليك وانتصرت عليه في معركة فيها الخسارة فوز لا تشبه غيرها من المعارك
في الحبّ ستعلن أن أحدهم انتصر عليك وانتصرت عليه في معركة فيها الخسارة فوز لا تشبه غيرها من المعارك
  

 وإن فعل وأخفى قبل هذا الميثاق فلا شيء أجمل من أن يستعين على أمره بالكتمان فلا تنخر فيه، لا تنقر عن سرّه ودع له خصوصيته، تالله إنّ في خلوة المرء بسرّه للذّة لا يصل إليها من هبّ ودبّ. ثمّ إذا جئنا من الناحية النفسية فيصنّف جلّ الذين يعيشون قصة حبّ صادقة عفيفة في داخلهم ويكتمونها عن الناس في خانة الأذكياء انفعاليا، يعلمون جيّدا كيف يديرون مشاعرهم وانفعالاتهم ويتركون للحبّ قدسيته وطهارته وخلوته فيجيدون فيه التكتّم. يفهمون الآخر بلغة الصمت ويبحرون في داخله ويغوصون إلى أعماقه فيقتاتون من عوالقها وهم كذلك غاصوا في ذواتهم وأتقنوا قراءتها وفهمها وأدركوا الآلية التي تحدث بداخلهم فلم يقلقهم من الكتمان شيء بل سيسطو عليهم الضجر إن أفلت الحبّ من سريّته وبدت عوراته. في الحبّ هنا لا يجب أن نأكل من الثمرة التي نهانا عنها الله وإلا سنهبط من سمائه العليا ورغد عيشها إلى الأرض وغيظ حروبها وقد يكون بعضنا لبعض عدوا ثمّ نتساءل لم فشل الحبّ؟ وأيّ ورقة سنطفق نخصف منها عليه لنستر عريّه؟ قد تكلفنا العودة إلى جنّة الحبّ حينها عبور حواجز وامتحانات صعبة وتبقى النتيجة مجهولة حالها كحال مصير البشر بعد الموت.

 
في رحلة الحياة وعصف شتاء القلب فيها قد تقصد الحبّ بعد غياب طويل وقد تنزل بين شعابها وجبالها ووحشتها وظلامها وتيهها وأنت تجرّ خيبات الماضي وتتمسّك بربّك وعطائه، قد تأنس من جانب قلبك نار الحب فجأة تشتعل في داخلك فتأتي منها بقبس ينير دربك أو جذوة بها القلب يصطلي ولم يكن من قبل في شتائه يدفأ. وفي اللحظة التي كاد فيها جدار قلبك أن ينقض يقيمه، وفي اللحظة التي كدت تركن فيها إلى اليأس يثبّتك الله به سكنا ولباسا يواري سوءات نفسك الأمارة بالسوء فتطمئّن وتهتدي، ألا ما أقدسه من قبس به القلب يصطلي!

 

في الحبّ ستعلن أن أحدهم انتصر عليك وانتصرت عليه في معركة فيها الخسارة فوز لا تشبه غيرها من المعارك. وفي الحبّ نحن قوم لا نقع حتى نتأكد من أنّ المكان مناسب وآمن وإذا وقعنا فلا ننهض لهذا نمشي إليه بحذر وخطى ثابتة. في الحبّ نحن كالثمرة لا شيء منه يعصر لنغنم بزواج ساكن إلّا إذا بلغنا من النضج فيه الاكتمال. ومثلما ذكرت في مدونتي السابقة "امرأة معقدة" في الحبّ لا يجب أن نسقط بالطريقة التي يسقط بها مريض الصرع، أي لا يجب أن نصاب به وراثيا لأنه هكذا يجب أن يحدث كأنّ الأهم أن نحبّ، فنتمايل فيه مخدرين بأعراضه ونتدحرج بسبب ضبابها ونسقط فجأة في أي مكان مهما كان خطرا فنهلك، بل يجب أن نمشي بخطى ثابتة ونستلقي بالطريقة التي يستلقي بها المصاب بنوبة هستيرية، هذا الأخير يسقط لاشعوريا نعم، لكنه يختار المكان الذي يتمدد فيه ولا يرمي أبدا بنفسه في مكان خطر، هو يعرف جيّدا ما يريد ووراء سقوطه ذاك مصلحة نفسية لا هلاك. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.