شعار قسم مدونات

في مئوية الثورة العربية.. قراءة جديدة لتاريخ يعيد نفسه!

مدونات - الدولة العثمانية

في نهاية شهر أيلول 1918، انسحبت آخر الجيوش العثمانية من مدينة دمشق! وحلّت محلها الجيوش العربية بقيادة فيصل أمير الحجاز. إذ وقّع العثمانيون اتفاقية الاستسلام مع الحلفاء في منطقة مرج دابق غرب حلب، ولصدفة التاريخ! فهي المنطقة نفسها التي كانت منطلقاً لفتحهم هذه البلاد منذ 400 سنة مضت! فقد دخلوا اليها باسم الإسلام، وخرجوا منها مستسلمين تحت راية الخلافة نفسها! ذلك وأن أغلب الرعايا المسلمين الذين قاتلوا مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى هم نفسهم الذين طردوا الجيوش التركية من المنطقة، فهل رسمت هذا الأحداث الدموية في حينها مساراً سياسياً محدداً في المنطقة العربية؟ وكيف نقرأ تبعات الثورة العربية الكبرى بعد مئة سنة من وقوعها؟

 
مما لا شك فيه أن فكرة القوميات والأعراق كانت مواضيع مستتر عليها ومعتّمة في زمن الامبراطورية العثمانية التي امتدت جذورها وحكمت أعراقاً وإثنيات متعددة في قرون أربعة خلت، فقد كان الإسلام هو الجامع والرافعة لعصب هذه الامبراطورية! بل والضمان لاستمرارية كيان كان منتشرا في 3 قارات مختلفة! وقد آثر السلطان عبد الحميد الثاني في نهاية عهده إلى إعلان نفسه خليفة للمسلمين، بحيث كان عدد الرعايا العرب في السلطنة 145 مليون عربي مقابل 75 مليون تركي! ما يوحي أن الأمة العربية شكلت الأكثرية في امبراطورية شعارها الإسلام.

  

ها هم اليوم السعودية ومصر والإمارات يثورون على الماضي الحديث ويشيّدون كل جسر ومنطلق وطني يعزز أساسات حكمهم وحكومتهم. إنها الجدلية التي لم تنته بعد: الدين والقومية في ثنائية لا حتمية في التقائهما!

ولكن في بداية القرن العشرين، فقد جرت أحداث مفصلية غيّرت كل المعادلة الثابتة في الشرق الأوسط، فبعد أن دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب حلفائهم الألمان، مقابل دعم الإنجليز والحلفاء للشريف حسين وابنه فيصل في الحجاز. فقد اشتد العصب المناطقي والعرقي لدى الشعوب العربية خاصة، وشعروا بالانفصال الوجداني والديني عن السلطنة نتيجة سياساتها الداخلية في المناطق والأقاليم العربية المحيطة (إضافة إلى سيادة منطق القومية والأعراق المستوحى من النماذج الأوروبية)، ومع ذلك فقد ظل مفهوم الخلافة الإسلامية ثابتاً، إذ كان قادة بني عثمان يشددون في حروبهم على فكرة أن العرب والأتراك هم أخوة في الدين وفي المذهب، وذلك بإيعاز من الحلفاء الألمان الذين أسسوا أول صحيفة إسلامية في برلين بعنوان صحيفة الجهاد!

  
لقد شعر العرب ولأول مرة منذ قرون مضت بأهمية الروح القومية وبالتعاضد العرقي فيما بينهم، أكثر من شعور الانتماء الديني والالتفاف المذهبي! وذلك نتيجة ظلم القادة العثمانيين وسياساتهم المتشددة خلال الحرب (وخاصة جمال باشا قائد الفرقة الرابعة في الشام)، فقد ثار العرب المسلمين على الخلافة الإسلامية وطردوهم من الأقطار العربية، حتى أن فيصلاً عندما دخل دمشق بعد تسريح العثمانيين منها، بدأ بتشييد خطاب قومي بقوله أن أجداده عرباً قبل أن يكونوا مسلمين وأن الحكم للديمقراطية والحكومات الفدرالية! ومع ذلك فقد بايعه أهل الشام بصفته من سلالة الرسول (ص). لم يعد للشعارات الإسلامية رصيدها في الأقطار العربية بعد طرد العثمانيين منها بل حلّت الشعارات القومية محلّها.

لقد خاطب فيصل الحلفاء (الإنجليز والفرنسيين) بصفته عربياً نال استقلاله من الخلافة العثمانية، وقدد وعدوه بالاعتراف بهذا الاستقلال، لكنهم ما لبثوا أن نقدوا العهد وعاملوه على أنه مسلم وأنه جزء من "أراضي العدو" المقسّمة باتفاقية عرفت بـ"سايكس-بيكو" ما زالت قائمة حتى اليوم قلباً وقالباً، فقد ظل الهاجس الإسلامي يراود الحلفاء المنتصرين وذلك رغم خلع فيصل كل عباءة توحي بالإسلام خصوصاً إذا راجعنا مراسلاته ومحاضر جلساته في باريس ولندن، بحيث لم يذكر أي صيغة اسلامية على هويته أو مرجعيته وهو ما كان أكثر ذكراً لهويته الإسلامية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى (مراجعة كتاب الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، زين نور الدين زين).

 
ختاماً، وها قد تخطينا أحداثاً متراكمة تثبت التناقض الجلي بين التوجه الإسلامي والتوجه القومي، فيبدو أن أغلب الصراعات العربية تقوم إما على الجانب الديني وإما على الجانب القومي، ولا تخلو ثورة في المئة سنة الأخيرة إلا وركبت على إحدى ظهور الدين أو الوطنية. والأحداث الحالية تثبت هذه الجدلية مع تخلي عدة دول مؤثرة عن عباءتها الدينية واستبدالها بعباءة وطنية-قومية برعاية دولية. فالسعودية ومصر والإمارات تراهنان على إقصاء الإسلام السياسي كمنطلق لأي خطوة نحو الازدهار والانفتاح، وهم أكثر الدول الذين تأثروا بالإسلام السياسي في السنوات الماضية، وها هم اليوم يثورون على الماضي الحديث ويشيّدون كل جسر ومنطلق وطني يعزز أساسات حكمهم وحكومتهم. إنها الجدلية التي لم تنتهي بعد: الدين والقومية في ثنائية لا حتمية في التقائهما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.