شعار قسم مدونات

خروج بريطانيا والفشل المروع!

مدونات - بريطانيا والاتحاد الأوروبي

مر من الزمن نحو عامين منذ صوتت المملكة المتحدة بفارق ضئيل لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومع استمرار مسيرة الخروج -التي من المقرر رسميا أن تتم بحلول نهاية مارس/آذار المقبل- تظل تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في المستقبل بلا إجابة. وبدلا من الحصول على إجابات، كلما اقتضت الضرورة اتخاذ قرار صعب في إطار المفاوضات الجارية في بروكسل، يلجأ الوزراء البريطانيون إلى إرجاء البت في القضية المطروحة، أو حتى تجاهلها تماما. وهو أمر مثير للدهشة بعض الشيء. فمن الواضح أن لا أحد من الساسة ومحرري الصحف الذين خططوا لسنوات لإخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي فَكَّر مليا في ما قد يحدث إذا نجحت مكائدهم. حتى أنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على ما إذا كان من الواجب على المملكة المتحدة أن تسعى إلى خروج "ناعم"، مع بقائها على اتصال وثيق بالأسواق الأوروبية، أو خروج "صعب" يقطع كل الروابط دون النظر إلى التأثير الاقتصادي.

 

زعم بعض المتحمسين للخروج أن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستكون سهلة للغاية. وهم يقترحون أن شركاءنا الأوروبيين يحتاجون إلينا أكثر من حاجتنا نحن إليهم: فألمانيا راغبة بشدة في بيعنا السيارات، وإيطاليا راغبة بشدة في بيعنا النبيذ، وفرنسا راغبة بشدة في بيعنا الجبن. غير أنهم مخطئون تماما. ففي حقيقة الأمر، تعتمد المملكة المتحدة على بيع منتجاتها إلى أوروبا، والتي تمثل نحو نصف الصادرات البريطانية، بشكل أكبر كثيرا من اعتماد أوروبا على بيع منتجاتها إلى المملكة المتحدة. 

  

فوائد ترك الاتحاد الجمركي لا تقترب حتى من التفوق على المخاطر. ويزعم أنصار الخروج أن المملكة المتحدة ستستفيد في نهاية المطاف من الحرية في عقد اتفاقياتها التجارية الخاصة

وحتى في ظل استراتيجية واضحة وواقعية، فإن فترة السنتين المخصصة للتفاوض على رحيل المملكة المتحدة ــ والتي بدأت في مارس/آذار 2017، عندما استدعت المملكة المتحدة المادة 50 من معاهدة لشبونة ــ لن تكون كافية لتغطية عدد لا حصر له من القضايا التي تتطلب الاهتمام. وبإطلاق العملية في غياب مثل هذه الاستراتيجية، جعلت حكومة المملكة المتحدة هذه العملية أشد صعوبة للجميع. فإلى جانب إجبار المفاوضين البريطانيين على الدخول في جدول زمني شبه مستحيل، قيدت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أيديهم من خلال بذل وعود كان الهدف منها إرضاء أنصار الخروج من اليمينيين المتطرفين في حزب المحافظين. وتشمل هذه التعهدات إنهاء حرية انتقال الناس من أوروبا، حتى برغم أن أكثر من نصف الهجرة التي يبغضها بعض البريطانيين تأتي من خارج الاتحاد الأوروبي. كما تتضمن وعدا بترك سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة والاتحاد الجمركي.

 

حتى الآن، تمكن وزراء المملكة المتحدة المسؤولون في الأساس عن المحادثات -الذين يشكلون مجموعة معروفة بالدوجماتية المتغطرسة والطموح الشخصي وليس بالكفاءة- من تأمين الاتفاق في مجال رئيس واحد: ففي أعقاب الموعد النهائي في مارس 2019، ستبدأ فترة انتقالية مدتها سنتان. ولكن حتى هذا الاتفاق ليس نهائيا، فهو يعتمد على ما إذا كان المفاوضون قادرين على الاتفاق أولا حول ما يجب فعله بشأن الحدود بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية بمجرد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الجمركي. من الممكن أن تكون في اتحاد جمركي بلا حدود، أو خارج اتحاد جمركي تحده حدود. ولا يوجد أي مثال في العالَم حيث لا يصدق هذا. ومع ذلك فإن إعادة فرض حدود على جزيرة أيرلندا يثير مشاكل خطيرة، وسوف يؤثر ليس فقط على التجارة عبر الحدود، بل وأيضا الأمن ومستقبل اتفاق الجمعة الحزينة الذي جلب السلام إلى أيرلندا الشمالية قبل عشرين عاما. سهر المسؤولون الليالي في محاولة لإيجاد طريقة لحل هذه المعضلة، لكن قوانين الهندسة السياسية نسفت جهودهم.

 

الواقع أن فوائد ترك الاتحاد الجمركي لا تقترب حتى من التفوق على المخاطر. ويزعم أنصار الخروج أن المملكة المتحدة ستستفيد في نهاية المطاف من الحرية في عقد اتفاقياتها التجارية الخاصة مع بقية العالَم. لكن الاعتقاد بأن المملكة المتحدة قد تكون بمفردها في حال أفضل من حالها وهي جزء من السوق المنفردة الأكثر ثراء في العالَم محض وهم وخيال. فبينما تحاول المملكة المتحدة عقد اتفاقيات تجارية، فإنها ستحاول بشكل أساسي استنساخ اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، سواء القائمة منها أو التي لا تزال قيد التفاوض، مع دول مثل المكسيك، والصين، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، وسنغافورة، واليابان. ولن يستغرق هذا وقتا طويلا فحسب؛ بل ومن غير المرجح أن تنجح المملكة المتحدة في تأمين شروط مواتية كتلك التي أمنها الاتحاد الأوروبي.

    

الممثلة الدائمة لبريطانيا لدى الأمم المتحدة
الممثلة الدائمة لبريطانيا لدى الأمم المتحدة "كارين بيرس"  تقف مع ممثلين من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى (لأوروبية)

 

من المعروف أن الشريك الأكبر في المفاوضات التجارية يميل إلى الأداء بشكل أفضل من الشريك الأصغر. وسوف يزداد موقف المملكة المتحدة ضعفا بفِعل قضايا فنية مثل قواعد المنشأ. في الوقت الحاضر، تستفيد البلاد حتى عندما يجري تصنيع أجزاء من أي منتج في مكان آخر في أوروبا، إلى حد متفق عليه. وسوف تفرض خسارة هذه المرونة مشكلة كبرى لشركات تصنيع السيارات، بين آخرين. حتى الآن، لم تحقق المسيرة نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أي مكاسب واضحة. بل على العكس من ذلك، أصبح متوسط دخل الأسرة الحقيقي في المملكة المتحدة، وفقا لبنك إنجلترا، أقل بنحو 900 جنيه إسترليني (1200 دولار أميركي) من توقعات ما قبل الاستفتاء. الواقع أن الوعود النبيلة التي دفعت أغلبية ضئيلة نسبيا من الناخبين في عام 2016 إلى اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي لم تتحقق حتى الآن؛ وفي أغلب الحالات، لن تتحقق أبدا.

 

مع استقرار الحقائق الصارخة حول خروج بريطانيا، انقلب أعضاء الحكومة البريطانية وكبار أنصار الخروج على نحو متزايد ضد بعضهم بعضا وحاولوا إلقاء اللوم على الجميع عدا أنفسهم؛ القضاة، وموظفي الخدمة المدنية، وأعضاء البرلمان- وحتى أولئك الذين صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وهم يعلنون أن بريطانيا لابد أن تمضي قدما، لأن هذه كانت "إرادة الشعب" (وإن كان ليس من الواضح حتى الآن على أي شيء تصور الناخبون أنهم يصوتون). وفي الوقت نفسه، يشرعون في إعداد أعذارهم في ما يتصل بالكارثة الوشيكة.

 

كما تساءل لينين ذات يوم: "ما العمل؟". من الصعب أن نجزم. فربما يكون علينا أن نأمل في الأفضل ببساطة، في حين نستعد للأسوأ، من منطلق إدراكنا لحقيقة مفادها أن أبناءنا هم من قد يضطروا إلى تحمل عبء جمع القطع المتناثرة. ولا نملك إلا الأمل، إذا تبين أن هذه هي الحال، في أن يتمكنوا من القيام بعمل أفضل في حكم المملكة المتحدة مقارنة بقادة اليوم.

_________________________________________________________________________________________________________________

المصدر: بروجيكت سنديكيت

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.