شعار قسم مدونات

أدبتني طفولتهم.. فأحسنت تأديبي

blogs - kids
صباح ذلك الأحد الربيعي استيقظت كعادتي متأخرا؛ ولا ملامة، فأنا من عشاق الليل. انتبهت على إيقاع صوت ابن أختي ذي الخمسة أعوام يناديني "خالي.. خالي.." في نبرة حشاها ببراءته كل ما أوتي من قدرة على الغضب. فركت عيني لأتلمس وجهه فأهدأ من روعه، فيبدو أن المسكين لبث دهرا طويلا يوقظني. "ماذا هنالك يا أمين؟" سألته بلهجتي المغربية الفيلالية، فأجابني وعلامات الفرح بادية على محياه، لأن مجرد الفلاح في إيقاظي مكسب يستحق الفرح، وهو الذي لطالما فشل في ذلك كلما أرسلته أمه لهاته المهمة الشاقة، بعد أن تكون المسكينة نفسها قد فشلت فشلا ذريعا في ذلك. 
قال الحبيب: "لقد ذهبت أمي إلى… (لم أسمع إلى أين ذهبت) وأريدك أنا وأختي صفاء أن تذهب بنا للنزهة كما وعدتنا." أنا وعدت؟ هكذا قلت من أعماقي، كنت بادئ الأمر أؤمل أن أصرفه لأعود لنومي، لكن أتاني -أو بالأحرى جر علي لساني- بداهية جعلتني منتبها تماما. فقلت: "تجهزا.. أمري لله" بعد ربع ساعة كان الكل جاهزا للنزهة ما إن رأيت ملامح السعادة بادية على وجه أمين وصفاء -التي تكبره بأربع سنوات- حتى صرت أنا كذلك فرحا بها، ومريدا لها. فأنا بدوري منذ زمن لم أغادر تلك الغرفة القاتمة في بيت أختي، إنها فرصة للتصابي مجددا، لأتعرف على عالم هؤلاء الأبرياء، لأخرج من نسق الحياة الممل..

"أيها الحبيبان شكرا لكما." هكذا قلت لهما لما أخذنا في السير، فاندهشا؛ إذ كيف يشكرنا ونحن اللذين عليهما شكره؟ لم ينبس أحدهما ببنت شفة، لكنهما تابعا السير وحالهما تقول: "الأهم أننا انتزعنا منك ما نريد، ولك أن تهرطق بما تريد من عبارات مجنونة لا معنى لها." هكذا كنا نقول عندما لا نفهم أحيانا ما يقوله الكبار. وصلنا إلى ملهى أطفال بعد أن أفرغ الصغيران ما في جعبتهما من كلام، كنت منغمسا فيه معهما حد الانفكاك التام عن الوجود الخارجي أحيانا، -ألم أقل إن اليوم يوم التصابي؟- وأحيانا أتظاهر بالمبالاة والانتباه، فتارة أنجح وتارة أفشل.. لكنني انتبهت جيدا إلى بطني التي لم تستقبل شيئا منذ الأمس.

لما تراءى لنا مدخل الملهى وانطلقا في سرعتهما النهائية لولوجه. "يا أولاد هنالك اقتراح.." توقفا، وظنا أني نكصت العهد، تابعت قبل أن يغرقني نهر الدموع: "ما رأيكما أن نتغدى أولا، ثم نلهو جميعا وبطوننا ممتلئة." تابعت دون النظر إلى ردة فعلهما، كالذي يحاول تجييش حججه لإقناعهما: "فالذي يلهو وهو جائع، لا يلبث إلا قليلا فيتعب، تريدون اللعب لمدة أطول، أليس كذلك؟" نظرا إلى بعضهما البعض، إنها المشاورة البريئة يا سادتي من دجل الساسة، ونفاق الدول.. ألم أقل لكم إني جئت لأتعلم؟ وافقت المملكتان على هذا الاقتراح، وحسنا فعلا؛ إذ جنباني حرجا قد يفسد علينا جميعا سعادتنا التي سعيت بكل ما أستطيع ألا أترك شيئا يفسدها، فقد تحملت منهما اليوم أشياء لم يألفا مني تحملها من قبل. يا سادتي تذكروا أني جئت لأتصابى ولأتعلم.

أخذا في اللعب في سعادة غامرة، بعد أن لقنانني في المطعم درسا جديدا، لقد طلب جنابهما -بعد أن تناولا قائمة المأكولات دون استشارتي، وأشارا للنادل إلى صور جميلة أعجبتهما- أطباقا ما كنت لأتناولها لولاهما حفظهما الله. وبعد أن لم يعد من مجال للتراجع، كانت المجزرة عند محطة الأداء، ابتسمت للجميع.. وكظمت غيظي، ألست أنا القائل أن اللعب الجيد يحتاج إلى أكل جيد؟ ورغم ذلك فلا شيء سيفسد علي اليوم سعادتي مع هؤلاء الأبرياء مهما كلف الأمر. لكن الدرس هاته المرة كان مكلفا، إنها خوصصة التعليم يا سادتي.

استمتعت كالولدين أو أشد، ولولا الحياء وحافظة النقود التي لم تتعاف بعد من مجزرة المطعم لشاركت معهما ألعابهما، وكيف لا أفعل وأنا لم أنعم بلعب أي منها في طفولتي؟ لأطلق العنان بعد ذلك لذاكرتي كي تطوف على تلك الألعاب البدائية التي كنا نلهو بها هنالك في قريتي الجميلة بضواحي المدينة التاريخية جنوب شرق المملكة المغربية؛ الريصاني أو سجلماسة قديما، آه.. آه.. واشوقاه إلى وطني. بينما كنت أسترجع بابتهاج شريط الذكريات وقعت الواقعة؛ دمعات في عين أمين. آه كسرت ظهري يا حبيبي آه.. لقد ضربه طفل صغير، ودون إدراك لما أفعل وما حولي طاردت المجرم، تعال.. تعال.. لقد أفسدت علي يومي، كنت أطارده بكل ما تبقى من جراح مجزرة المطعم، والحمد لله أنه نجا بعد سلسلة مطاردات.

عدت إلى أمين، مسحت دمعاته، طيبت خاطره، وعدته وعدا جديدا لا أذكره، لكني متيقن أني سأدفع ضريبته ذات يوم. عادا إلى اللعب، فعدت معهما إلى السعادة رويدا رويدا.. وإذ بصفاء تناديني من بعيد: "خالي .. خالي.. ذاك هو." تلفتت فإذا بي أمام ملاك صغير معه حورية جميلة بالكاد تخطو خطواتها الأولى، وما كدت أصحو من هول الجمال لأعرف أنه المجرم حتى عاجلني قائلا بلهجة أعادتني إلى دائرة الجمال مرة أخرى: "عمي.. عمي.. أعتذر، فقد أسقط أختي، ظننته عمدا، ففعلت ما فعلت، أعتذر.. أعتذر.." يا ألله ما هذا الدرس؟ انحنيت لأجعل وجهي في مقابل وجهه، لأشاهد معالم الدرس ونحن على مستوى واحد. انحنيت لأرتفع إلى عالم الأطفال، إلى مقامات ساداتنا الأولياء الأبرياء… طبعت قبلة على وجهه ووجه أخته، قبلتان ما أظنني أستطيع أن أجود بمثلهما لأي كان حتى لزوجتي المستقبلية… أعذريني يا زوجتي يا حبيبتي فهذا مقام الصدق والبراءة.

ناديت صفاء وأمينا، وعقدت مجلسا ملائكيا، ولكم أن تتصوروا ديكوره، فلغتي في هكذا مقامات خائنة. أقنعت أمينا بالصفح، لكني لم أعده بشيء هاته المرة. وانطلقت القبلات يا عشاق الجمال بين الأربعة، يا ربي ما هذا الجمال. أخذت بيد الطفلين -بعد أن علمت أنهما جاءا مع أمهما الأرملة- لأشكرها على هاته التربية الحسنة، وأخبرتهما أني أريد تقبيل رأسها شكرا لها، وفي نفسي مقصد المواساة لهاته الأم الرزينة التليدة التي لم تزعزع نكبات الدهر -التي حلت بها حتما- من قدرتها على هاته التربية التي عز أن تجدها في أمهات جيلي.

ولما تلاقت الأعين، كنت أمام امرأة شابة، قد تكبرني بسنة أو اثنتين، جميلة حسنة مؤدبة. أعادت الاعتذار لي مرة أخرى، وقبل أن أنطق بكلمة همس الولد قائلا -بعبارات ملؤها الشعور بالفخر-: "هاته أمي، فقبل رأسها كما قلت لي." "أنا؟ أنا؟ لم أقل شيئا، يبدو أنك لم تفهم مقصودي، قلت لك لأقبل رأسك أمام أمك." ففعلت وانسحبت بهدوء، وعلامات إحراجي بادية، شكرتها وأنا أولي هاربا. ابتسمت لي ابتسامة تدل على فهم كل شيء.. فعدت إلى بني أختي قائلا: "تعالوا.. تعالوا.. فقد ارتويت من الدروس."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.