شعار قسم مدونات

كيف يؤثر التفاوت في الإدراك على علاقة الأصدقاء؟

blogs مركب

قامت قصة موسى والعبد الصالح عليهما السلام على مفارقة مضاعفة، فهي من جهة قد استندت إلى عدم استيعاب موسى لما قام به العبد الصالح من أعمال بدى أنها تخالف العرف والعادة والقيم (خرق السفينة، قتل الغلام، بناء الجدار)، ومن جهة أخرى مفارقة أن موسى قصد العبد الصالح للتعلّم منه لكنه في النهاية لم يطق تعليمه له مما اضطره لإبعاد موسى عنه ليس لإساءة منه بل لتأكده من "قصور مدارك" موسى عن المستوى المطلوب لتعليمه، حتى بلغ مستوى الاعتذار له عن قصوره (قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا)، فموسى عليه السلام كان يعلم جيدا قَدر العبد الصالح ومكانته لكنه أخفق في الصبر على مصاحبته! وكذلك العبد الصالح عرف جيدا نية موسى الطيبة لكنه أدرك أن النية لا تكفي لتحقيق الصحبة الفعلية. 

كثير من الناس يدركون مكانة بعض من يعرفون لكنهم ينكرونهم عند أول مصاحبة، فمعرفة شخص ما تعني إدراك نصف قمره الظاهر، بينما مصاحبته تعني التعرف على النصف الخفي منه، فلكل إنسان نصف خفي منه، لكن الغرض في هذا المقال هو بيان وإبراز أن الطيبة الغُفلة للناس عند التعارف يجب أن يقابلها "حِلم واع" عند المصاحبة، والمصاحبة هنا تجاوز الوهلة الأولى للتفاعل إلى ما يليها وما يحصل بعدها من استمرار أو قطيعة.

إذا كانت علاقة الصداقة انتهت دون خسائر تذكر، فإن التفاوت في الإدراك على المستوى القرابي ينتج شنآن صعب التجاوز

إن موسى قد شايع العبد الصالح وشد إليه الرحال ثم أخيرا أنكره وأبعده عنه، وهذا المشهد تعبير عن "حقيقة الخلاف" الداخلي الذي يمكن أن يحصل فيما بين المتصاحبين من أصدقاء أو أقرباء، فنجد أن تباعد المدارك هو الذي يسبب النفور بين المتخالطين والمتعاشرين، والمعضلة تنشأ بالضبط من كون صاحب "الإدراك الأعلى" هو الذي يستكشف الخلل وهو من يصدر عنه الموقف تماما كما صدر الموقف عن العبد الصالح، والسؤال هو عن العلّة التي عنها يضطر صاحب الإدراك الأعلى للتخلي عن صاحب الإدراك القاصر من رغم الود الذي بينهما؟

فالغالب هو أن صاحب الإدراك الأعلى يكون له بالضرورة غايات ذاتية مجهولة عند غيره يسعى لتحقيقها بينما غالبا ما يكون أصحاب الإدراك الأدنى مندرجون ضمن النمط السائد، وكذلك كان موسى مندرجا في الحس العام لعصره، وذلك ما يقابل النموذج الإبراهيمي الذي أراد أن يرفع أباه إلى مستواه الإدراكي (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)، حيث المفارقة هنا تكمن في ثقة إبراهيم عليه السلام التامة في الحكم الذي أصدره (جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ) والمؤكد أن ذلك حصل عن طريق اختبار إبراهيم لأبيه وتأكده من قصور مداركه، فكانت العلاقة هنا علاقة قرابة بينما كانت في نموذج موسى علاقة صداقة.

فإذا كانت علاقة الصداقة انتهت دون خسائر تذكر، فإن التفاوت في الإدراك على المستوى القرابي ينتج شنآن صعب التجاوز (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، كذلك والد إبراهيم طلب منه الانسحاب من حياته عندما تأكد من تباعد المدارك، فكان النموذج الإبراهيمي في الإدراك مفارقا للنموذج الموسوي حيث إبراهيم سعى لرفع الوعي الإدراكي لجماعته بينما موسى سعى للتعلم الفردي من الرجل الحكيم، لكن الإشكالية كانت واحدة. 

إن تباعد المدارك يعني اختلاف عميق في العقائد ينتج عنه تنافر قد يصل إلى حد الاقتتال كما حصل ذلك في المجتمع القرشي عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث إيمان المرء يكون تحصيل حاصل لتفاوت المدارك أكثر منه مجرد إعلان موقف مختلف، فالجرأة والقدرة على إعلان ذلك الموقف تكون مسبوقة بقابلية ذاتية الأرجح أنها نشأت في زمن أقدم من زمن إعلان الموقف يعود إلى ما قبل ظهور الدعوة المحمدية في حد ذاتها، ما يجعل من البعثة المحمدية تجميعا لتلك الأنفس التي فارقت مداركها الحس العمومي المشترك وغالب الثورات تأتي لتكون تحصيل حاصل لترجيح الكفة لصالح الإدراك الناشئ.

وإذا كان اختلاف المدارك لا علاقة له بالصداقة والقرابة بل وقد يكون سببا في هدمها، فكيف ينشأ الإدراك الأعلى ويميز نفسه عن الأدنى منه، حيث التمايز هنا منقطع عن المعطى السلطوي الطبقي أو التاريخي الثقافي، إذ يكون قادرا على الجمع بين المتنافرات نفسيا وروحيا، هل يكون لهذا الإدراك الأعلى خلفية وراثية وبيئية؟ لكن كيف يكون ذلك والمعلوم أن الوراثة الجينية والأثر البيئي مرتبطان بالعرق والتكوين القرابي!

فلنفرد "تفاضل الإدراك" بالبحث ونسأل عن حقيقته هل هو أمر ممكن؟ ذلك أن ثقافة سائدة راهنا تقرّ باختلاف المدارك دون تفاضلها، وتعتبر الإقرار بحقيقة التفاضل أصل كل بلاء، لكننا بالمقابل نجد أن الوعي الديني السائد هو الذي يؤسس للتفاضل الإدراكي بين المؤمنين والكافرين مثلا وغيرها من التمييزات، على أن حقيقة التفاضل تتجاوز الوعي الديني إلى تشكلها كحقيقة فعلية لا تنتظر إقرارا أو اعترافا من أحد، بل وأن نفي التفاضل في الواقع ليس إلا حيلة لإقراره بشكل باطني وخفي!

وهذا مالك بن نبي يبني كتابه "العَفَن" كله على مسلمة المفاضلة، مفاضلة أفكاره عن الاستعمار والقابلية للاستعمار، شارحا كيف وقع بين فكيهما، حيث المعضلة الكبرى تكمن في أن جماعته الأهلية التي يعمل ويضحي من أجلها يتصدرها أصحاب مصالح ومدسوسين بينما كان بن نبي نفسه محل اتهام من أقرب من يمكن أن يتصور أنهم حلفاؤه ويفترض أن يعملوا في جبهة واحدة معه على المقاومة، لذلك كان من المفيد استقصاء حقيقة التفاضل والشعور بامتلاك الحقيقة والبناء على ذلك رغم كونه لا يقوم على مؤشرات واضحة.

 مشكلة العبد الصالح مع موسى ومشكلة إبراهيم مع أبيه إنما تعالج قضية التفاضل بين الأصدقاء والأقرباء بوصفها أهم من علاقة الفرقاء والأعداء
 مشكلة العبد الصالح مع موسى ومشكلة إبراهيم مع أبيه إنما تعالج قضية التفاضل بين الأصدقاء والأقرباء بوصفها أهم من علاقة الفرقاء والأعداء
 

من المفيد هنا الإشارة إلى أن التفاضل يقوم على مؤشر خارجي هو الإبداع، أعني أن يجد المرء في نفسه قدرة على خلق الاختلاف أو الاندماج فيه، فالإتيان بالجديد أو إحياء القديم هو الذي يشحن صاحبه بالشعور بعلو الإدراك، ومن ثم مده بالطاقة التي تجعل إدراكه الأعلى فعليا، على الأقل في التصورات، بما يورث صاحب الإدراك قناعة بتميزه، والقناعة المطلقة بالتميز بما هي علو الإدراك تكون بالضرورة عملية مستمرة ومتواصلة في تحقيق علو الكعب الرمزي وثم المادي على الآخرين، وأن تحول القناعة إلى مجرد اعتقاد غير دافع للعمل من أجل ترسيخ التميز بالكد والجهد سيؤول بالضرورة إلى إدراك أدنى من الإدراك الساذج العادي الراضي بما يقره الحس المشترك وأكثر ضررا منه.

وبه فإن الدافع إلى اعتقاد المرء بعلو إدراكه دافع روحي (دينيا) من أجل تحقيق وترسيخ التميز (دنيويا)، وأن اعتقاد علو الإدراك والعمل المستمر على تحقيقه فعليا يخلق جدارة في تفكير صاحبه ونفسيته، بما يجعل من ذلك الاعتقاد حالة إيمانية بدئية متواصلة تتكرس وتترسخ باستمرار بفضل الكدح الدنيوي في السمو الرمزي والفعلي للإنسان حتى تجعل منه فعلا متميزا بإدراكه الأعلى.

وبالعود على بدء نجد أن مشكلة العبد الصالح مع موسى ومشكلة إبراهيم مع أبيه إنما تعالج قضية التفاضل بين الأصدقاء والأقرباء بوصفها أهم من علاقة الفرقاء والأعداء، وأن كفاحهم الداخلي لتجاوز الخلاف بينهم هو أهم من النضال ضد الخارجيين، وذلك معنى (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، جهاد مغالبة فوارق المدارك الذاتية:

1- عند الفرد بتحقيق السمو والتعالي عن الإخلاد إلى الأرض.

2- والجماعة بتحقيق الوحدة النفسية والفكرية داخلها على أسس المعاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.