شعار قسم مدونات

درعا تواجه الطّغيان

مدونات - لاجئ نازحو درعا أطفال سوريا
حين غنّى فهد بلّان لحوران لم يكن يدرك أن هذه الأغنية ستصبح ذكرى تجرّ آلاف المآسي والقصص والدموع، لم يكن يعلم أن هناك من سيعيد صياغة كلمات الأغنية لتصبح أكثر مواءمة مع الحدث؛ ليقول: عالبال بعدك يا سهل حوران، شرشف قصف ومطرز بنيران، عرسك شهادة ولمتك أحزان، وآني جريح أسأل عن الرفقة.
 
حوران مهد الثورة التي انطلقت في 18 آذار للعام 2011، لأول مرةّ منذ عقود طويلة يذوق الشعبب طعم الحريّة المفقود، ولم تكن هذه الحريّة مجانيّة بل دفع الكثير من أهل حوران دماءهم دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم الإنسانية، ذلك أنّ صوت الشعب الثائر يزلزل عرش الطاغية الذي يعبد عرشه، وأمّا الزعماء الأحرار يرسّخ صوت الشعب عروشهم ويقويهم.
  
كثيراً ما استسلمتُ للدموع حين رأيت المجازر والفظاعات التي ارتكبها المجرم بحقّ شعبي "سوريا"، وكان أكثر ما يدمي قلبي هو قتل الأطفال!

ربما لم يشهد التاريخ قائداً يشنُّ حرباً على شعبه، وليس هذا فحسب بل يستعين بالغرباء عليه، فيحرقون الأخضر واليابس، لا يراعي بذلك مدنيّاً أو مسلحاً، طفلاً أو عجوزاً، شاباً أو امرأة، الكل مستهدف، والكل إرهابي، والكل متورط ما لم يعلن الولاء! ولكن كيف لشعب جرّب الحرية وطار في سماها ليعود ويصافح قاتله؟ كيف لشعب ذاق ويلات سبع سنين ونيّف أن ينسى الإجرام والانتهاك والاعتقال الذي مارسه القاتل بحقّه؟

 
كيف يستكين وهو يعلم تماماً أن الحرب ما كنت لتقوم لولا أنّ القاتل يريد ذلك! وأنه بدل أن يحتوي بداية الاحتجاجات عمل على تأجيج نارها وإشعالها، وبدل أن يخرج للناس معتذراً بعد أول اعتداء على الشبان في درعا، خرج للناس ضاحكاً! فأوغلت ضحكته في جراحهم عميقاً، واستفزهم أكثر حين انتهك الأعراض وقام بممارسة التعذيب حتى الموت في السجون مما دفعهم إلى السلاح! ثم ليقول بعد ذلك: جماعات مسلحة! وعصابات إرهابيّة!
  
فإن كان الدفاع عن الشرف والكرامة إرهاباً فما أجمل الإرهاب! ولكن الدفاع عن الكرسي وقتل وتهجير وإبادة شعب كامل هذا إجرام لم تُحدد له تسمية بعد في اللغات! بعد مجازر حمص وتدمير حلب وتهجير أهالي الغوطة، جاء الهجوم على درعا بنفس الوحشية والناس أمام خيارين: إما الاستسلام والخضوع والذل، وإما الموت! ربما جاءت تسمية "ظالم" من الظلام فهو قابع في عتمة مطبقة لا يرى أي نور فيها، ولكنه سيصبح بصره حديداً حين تأتي ساعة لا يستطيع الفرار منها؛ إنّها ساعة الموت!
  
 
قد تتشابه القصص في سورية؛ وكثيراً ما استسلمتُ للدموع حين رأيت المجازر والفظاعات التي ارتكبها المجرم بحقّ شعبي، وكان أكثر ما يدمي قلبي هو قتل الأطفال! ولكني لم أستطع البكاء حين طالت يد القاتل أبناء أخي في قصف على منزلنا في المسيفرة بدرعا، فجرح الأطفال وقتل منهم طفلة لم تكمل شهرها الرابع مع خالتها الطفلة التي تبلغ عشرة أعوام، حاولتُ حينها أن أعبر عن حزني من خلال الكلمات فكتبت: لماذا الأطفال هم أكثر ضحايا الحروب؟ هل لأنّ أجسادهم طرية وغضة؟ أم أن القذائف التي يرميها المجرمون لا تستهدف سوى القلوب الصغيرة بالحجم الكبيرة بالحب؟ في كل حرب تكون الحجة دوماً هي استهداف إرهابيين! ولكن في الواقع يكون الهدف مخلوقات ألطف من أن تستوعب كلمة إرهاب وألطف من أن تدرك بشاعة هؤلاء القتلة!
 
ترى ماذا شعرت يا حبيبي الصغير حين أصابتك قذيفة حقدهم؟ كم هو حجم الرعب الذي أصاب قلبك وروحك وجسدك الغض؟ وكيف ستستقبل الحياة التي قدمت لك هذا الإجرام البشع الذي لم يوقف أحد طوفانه! أتخيلك وأنت تحتضن أمك وأخوتك وترتجفون جميعاً تحت وطأة القصف، لا تعرفون هل هذه آخر لحظات الدنيا أم أنكم ستنجون! وإن نجوتم… من يرمم الجروح في أرواحكم؟! ولكن أية كلمات تلك تعبّر عن عظيم المصاب! 
  
حوران تواجه الطغيان على قارعة التاريخ المنسي
في حوران تتصافح رائحة الجوري مع رائحة التراب
فتنعش الروح وتمنح للقلب حياة فوق الحياة
تجدُ الحمامة رزقها في أي مكان
تنام العصافير مطمئنة فوق أعشاشها
ويُنثر الورد فوق الرخام
تقبّل قطرات المطر أوراق الشجر
لتتفتح في الربيع جوقة أشجار تغني للحب
ولكن هدم الظالم فيها مئذنة الحياة
فمات الجوري في أوج طلعته
وغادرت الطيور أعشاشها باكراً
وعُلّقت الصلاة..
وبكى المسجدُ روّاده
فأزعج أنينه المجرمين فقتلوه..
كما قتلوا كلّ شيء 
إلا عزيمة في النفوس
يشعُّ ضوؤها كلما اشتدّ الظلام
  
وما هذه الكلمات إلا غيض من فيض لا تفي المحنة حقّها أمام الإبادة بحقّ شعبي، والنزوح الذي ينذر بكارثة إنسانية إن لم يتدخل المجتمع الدولي، ويخرج عن صمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.