شعار قسم مدونات

مثقفون مع وقف التنفيذ!

تقييم الكُتب .. لمن يجرؤ فقط!

لي صديقةٌ سورية لذيذة النقاش، لا أذكرُ يوما أنَّنا اتفقنا على رأي أو فكرة إلا ما كان عابرا. ووَجَبَ عليَّ أن أعترف أنَّني في كلِّ حوار أخوضه معها كنتُ أتخلى عن الهدوء وضبط النفس، وكأَنَّنا للرَّائي في حلبة مصارعة.. لم يكن ذلك تناقضاً منَّي لآداب الحوار ولا ضعفا مني أمامها، ولكن كنتُ أستلذُّ بتلك الراحة التي استشعرها حين اُظهر كل انفعالاتي وحماسي في الحديث معها… كانت نقاشاتنا مزيج من الحدة والعمق والمنطق واللامنطق في آن واحد، فيها من التنوع الكثير لكن لُبُّها واحد.. ثقافة القشرة.

وعلى ذكر الثقافة، أذكر ذات ليلة وبعد نقاش حاد كان قد جمعني بها أنَّ عقلي اشتهى أن يُسامرني قليلا، ولم يكن مني إلا الرضوخ له برضى كعادتي معه كل مرة.. استفهمَ راجيا أن يفهم، ما هي الثقافة!؟.. أهي العلم؟، أم هي المعرفة؟، أيمكن أن تكون الدين؟، أو لعلها الفلسفة والتعقيد؟، أم تُراها الأخلاق؟.. كان السؤال شهيا لي، ولم أجد له خيارا مناسبا من كل ما ذُكر، لكن سرعان ما استحضرتني كلمات الفيلسوف الإسلامي كما أحب أن أسبق اسمه دوما عزَّت بيغوفيتش حين قال، إنَّ الثَّقافة هي الخَلق المستمر للذات.. أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم وهذا هو التضاد بين الإنسانية والشيئية.

هذا حرفيا معناه أن الثقافة هي ما يؤثر به الفرد على نفسه ويتأثر به من نواحي دينية وفكرية ومجتمعية حتى يحقق معادلة أن يكون الإنسان إنسانا وهذا يحتمل التحليل والتأكيد والرفض والتأمل والشك وما إلى ذلك، أما الحضارة فهي تأثير هذا الفكر والذكاء على العالم الخارجي حتى تتحقق معادلة أشمل.. في حقيقة الأمر لست في صدد تحليل فلسفي وفكري بحت لمفهوم الحضارة وعلاقتها بثقافة الفرد لأني لست أهلا لذلك، ولكن أود تقديم فكرة بسيطة للثقافة تتعدى حدود التعقيد.

ما الثقافة إن لم تجعلنا نَحترِم ونُحتَرَم، نُبْنَى لِنَبْنِي، ونَحْيَا لِنُحْيِي.. نُحيي قلبا نُحيي نفسا ونُحيي عقلا.. ما الثقافة إن لم نكن فيها أنفسنا مجردين من أي كبر وغرور وتبعية عمياء

سيدي الفاضل بيجوفيتش، دعني أُخبرك ما هي الثقافة بناء على ثرثرة الأكثرية في مجتمعنا الحالي الذي لا أخفيك أنه يعاني طاعوناً فكريا مخيفا نكاد نجزم أنَّه لا أمل له في لُقاح مضاد.. فمجتمع بات فيه الاحتيال يسمى ذكاء، والانحلال انفتاح، والرذيلة فن، والعاهات عادات.. ليس بغريب أن يولد من رحمه مفهوم للثقافة بعيد تمام عن ذاك الذي كانت قد اقترنت به.. فالثقافة في زمني هذا يا سيدي لا تتعدى حدود التفاخر بكم الصفحات والكتب التي ابتلعتها عقولنا وتعسر عليها هضمها، هي فقط ثقافة جوفاء تعتمد التباهي بثرثرة عدد من الاقتباسات التي حركت اللسان دون القلب، هي ثقافة نصٍ لا ثقافة فعل وعمل، ثقافة إحصاء لا ثقافة صنع قرار، ثقافة رياء لا ثقافة إصلاح وتغيير.

رباه.. ما الثقافة إن لم تَخْلقنا من جديد في كل مره نحس بها عطبا داخلنا، ان لم تُعبِّد لنا طريقا للحضارة.. تلك الحضارة اليتيمة التي تناسينا أنها لا تنتمي لشرق أو لغرب، هي فقط تنتمي لأولئك الذين يتذوقون الجمال أينما أبصروه، جمال الخُلق وجمال القول وجمال العقل والروح. ما الثقافة إن لم تجعلنا نَحترِم ونُحتَرَم، نُبْنَى لِنَبْنِي، ونَحْيَا لِنُحْيِي.. نُحيي قلبا نُحيي نفسا ونُحيي عقلا.. ما الثقافة إن لم نكن فيها أنفسنا مجردين من أي كبر وغرور وتبعية عمياء لما ندرك بحق أن لا صواب فيه.. لم نُخْلَق عبثا ولم نُخْلق صفرا بل كل منا رقم صعب، عقولنا أروع من أن تبقى في حالة ركود، بل وجدنا لنتأثر ونؤثر، لنرفض ونثور، لنساهم في صنع إنسان الغد.

لا عُذرا عزيزي المثقف.. إن كانت ثقافتك كي تجادل وتناقش فقط، فدعها عنك.. وإن كانت ثقافتك مُسَكِّن للمريض النفسي القابع بجوفك، فدعها عنك.. وإن كانت ثقافتك لا تغير بك شيئا وليست لك دستور حياة، فدعها عنك.. نحن أمة إقرأ، لسنا بحاجة للمثقفين عددا، وإنما بحاجتهم عقولا تغير وتطور، بحاجتهم إعصارا يضرب ما أصابنا من رجعية وتخلف، بحاجتهم إكسيرا يشفي من الأمراض التي نخرت جسد أمتنا فأنهكتها وأطاحتها كعنقاء جريحه.

عزيزي.. دع عنك هذا.. فلسنا مثقفين إن لبسنا الحضارة بروح جاهلية عليلة، لسنا مثقفين إن لم نصنع حياة تليق بنا وبما نحمله في عقولنا وقلوبنا، لسنا مثقفين إن لم نزلزل أو حتى نهدهد بلطف جزءا صغيرا من هذا العالم.. أما دون ذلك فلن نكون، وإن أبى الغرور فينا أن يجعلنا نقتنع أننا لسنا مثقفين فدعنا نتفق حفظا لماء الوجه أننا مثقفون مع إيقاف التنفيذ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.