شعار قسم مدونات

الملحدون الأوائل في وادي النيل

blogs - 107-2-main1

ما زالت تتكرر المشاهد القديمة، ولا جديد تحت الشمس، حاربت الثورة الأولى للملحدين الكوشيون في سودان وادي النيل القديم ارض كيمت كما كان اسمها في ذلك الحين، حاربت الدين وممثلوه من الحُكام والكهنة ورجال المعبد حاربت الإله وفِي نظرهم اين وجوده من وجود من أسموهم بالمستغلين له والحاكمين باسمه المتطلعين دوماً لنهب الشعب باسم الرب القدير، وللاستيلاء على ثروات وخيرات الأمة بفكرة فلسفتها تقوم على مبدأ هذا ما اراده الإله وما قدره.
  
ففي إبان نهاية حكم الملك القوي بيبي الثاني او بعأنخي الثاني الاسرة السادسة وبداية حكم الاسرة السابعة 2346 ق م. والذي استمر حكمه لأربعة وتسعين عاماً 94 سنة وتعتبر من أطول فترات الولاية التي نالها ملك واحد في التاريخ حيث تولي الحكم بعمر سبع سنوات ليموت بعمر تجاوز المائة بسنة واحدة.     

     

تجرأ أحد "الملوك الملحدين" من الأسرة السابعة في إعلان منه أن الإله قد مات، ومات من كان معه في السماء من رسله وجنود

حاربت تلك الثورة الإلحادية الكافرة كل العقائد والأديان السماوية لفترة استمرت لـ150عام انتهكت فيها المقدسات والحرمات، وأُبيحت فيها ممتلكات الغير، وأصبح القوي في الناس يأكل الضعيف، فبالمثل الذي قاله جلال الدين الرومي (وحدهم التائهون يدلوننا) اصبح الأنسان الذي يبحث في تلك الحقبة من التاريخ عن مشكله وجوده، وإقرار كيان وذات، يبحث فيه عن حقوق تكفل له حريته وعيشته على الارض، وتبعده عن اعمال "السخرة" والاستعباد الذي مورس عليه من الحكام والكهنة وداعيي اللاهوت الالهي في ظل حُكم المتجبر "بيبي الثاني Piye2" الذي اتسمت فترته بالاستغلال الكامل للجنس البشري والاستعباد الكامل للإنسان في تلك الفترة.
   
انتهجت الثورة نهجها في محاربة الدين وممثلو الإله والناطقين بالكلمة السماوية، من الكهنة ورجال الدين، فعملت على تخليص نفسها بطريقة ما لم يفكر فيها الإنسان في وجود الله فحسب، وأنما كان الأشكال لديه هو وجوده هو في الحيّز الزمكاني الذي لا يرى فيه الا المستغلين له باسم الإله، أنه عبد، وبحاجة إلى حُرية اولاً، وليس بحاجة إلى إله.
  
إذا فبكل واقعية فلم يكن للملحدون الأوائل من "إله" فهم ببساطة لم يكونوا أحراراً لذلك كفروا بالإله وكفروا بتحقق وجوده، فعملت ثورتهم اولاً على إغلاق المعابد وهي الدور التي يُستغل فيها الشعب باسم الإله وعملوا على حرق المقدسات وتهشيم التماثيل المجسدة للتصورات الإلهية وقاموا بإعدام الكهنة ورجال الدين وإشاعة الفوضى من سلب ونهب وتدمير.
    

الإلحاد الاول في وادي النيل لم تكن مسألته هذه تنم عن مشكلة فلسفية، وأنما كانت في الأساس تتجسد رغباته في التخلص من الرّق والاستعباد الذي مارسه الحُكام بمساعدة الكهنة ورجال الدين، ولذلك هؤلاء الملحدون الأوائل في عصور ما قبل التاريخ وفِي سبيل الخروج بحّل يريحهم من العبودية فقد كانوا أول من أعلن (موت الإله) قبل أن يخرج بيأن (اليوم أنعي لكم الإله) من "نيتشة" الفيلسوف الألماني بأكثر من خمسة ألف عام.
     

   undefined    

     
يصفها الحكيم "إيبور" مرافق الملك "بيبي الثأني" قائلا "أنهم لم يعترفوا بالإله، كانوا ينادون بأن الإله قد مات، حرقوا المعابد وأوقفوا التشاريع والمقدسات" وفِي بردية أخري يصفها نفس الحكيم قائلا "أن من نادوا بموت الإله في السماء وحطموا ثماثيله وحرقوا معابده، أصبحوا يرتدون زي الكهنة ويمارسون تعاليم الشر الذي يمثلونه في الأرض، فرضوا على الشعب أن يقدم لهم القرابين التي كانوا يقدمونها للإله، وأطلقوا البخور في قصورهم بدلاً من إطلاقها في المعابد، فهم الذين يمنحون ويمنعون، لا إله السماء.
   
تحكي الأسطورة المنقوشة على إحدى البرديات، أنه قد تجرأ أحد "الملوك الملحدين" من الأسرة السابعة في إعلان منه أن الإله قد مات، ومات من كان معه في السماء من رسله وجنود، وحاشيته، متحدياً في ذات الحين "أن كان الإله حياً فلينزل إلى الأرض، ليثبت له وجوده ويُريه قوته" وتكمل الأسطورة القصة، بأن الملك نفسه كان يتنزه في إحدى حدائقه ليلاً، ومعه حاشيته وأعوانه فإذا بتمساح ضخم يخرج من بين الحشائش قرب النيل ليسحب الملك من بين أعوانه الذين لم يستطيعوا فعل شيء، ليلتهم الملك ويأخذه ليغوص معه ويختفي إلى الأبد في قاع النيل.
   
وهنا يلجأ أعوان الملك إلى الكاهن الأكبر طلباً للمساعدة، فيقول لهم الكاهن الأكبر "أن ملككم قد تنكر لوجود الاله في السماء وأعلن موته وعدم قدرته، وأن كُنتُم لا تؤمنون بالخلود في عالم الأرواح، واعلنتم أن الروح تفني مع الجسد في داخل الارض، فروح حاكمكم سوف تفني مع جسده في قاع النهر، ولن تصعد مع الأرواح الطاهرة في عالم الخلود. فاختفاء الحاكم هو تنفيذ لرغبة إله السماء الذي أعلن حاكمكم تحديه له -حين طالب في بيانه ذاك- أن يريه قوته وينزل له من عليائه أن كان موجوداً".
   

أصبح الكفر وإنكار الشريعة للإله مباحـاً ولديه الكثير من الاتباع، وكانت قضية الإلحاد في أصلها ليست نفياً للوجودية الإلهية وإن حدث إنكار الوجود لاحقاً

فقد الملحدون في تلك الفترة شعورية وجودهم، وأصبح الأنسان في تلك الحقبة يعيش في أزمات، وتحيط به العبودية من كل اتجاه، فأصبح تطلعه للحرية والعيش الكريم مناطاً به (الكفر بوجود الإله)، حتي يُمكن معه التقدم وتحقيق المطالَب الحياتية الأساسية، وما فعله الكهنة ورجال الدين في تلك الفترة هو أنهم ذادوا الطين بللاً وقاموا بتديين كل مظاهر الظلم الإنساني وسلب الوجود، وهنا ازداد القيد بؤساً، بل هنا وحسب كان أول البؤس البشري للإنسان في كوش القديمة وأصبح الفقه يتم تأويله من الكهنة لتسيير مصالح بعض "النفعيين" من رجال الدولة والسلطان، وبذلك ولأول مرة أصبح الدين لا يخص الإنسانية جمعاء وأنما يختص بتسيير مصالح فئة من الناس.
   
لذلك أصبح "الْكُفْر" والأنكار لشريعة الإله مباحـاً ولديه الكثير من الاتباع. وكانت قضية الإلحاد في اصلها ليست نفياً للوجودية الإلهية "وأن حدث أنكار الوجود لاحقاً كما ورد في الأسطورة"، وإنما كان الإلحاد الأولي يبحث رفضاً لجماعته تلك وشريعتهم، فحدث الخِصام في الجنس البشري الأول حينما وجدوا معابده مع الطغاة، وكهنة الله هم لصوصاً وسفلة.
  
طبق الملحدون مبدأ "الشيوعية" قبل الفيلسوف الألماني "كارل ماركس"، فقد أشاعوا أن الممتلكات مباحة بحرية للجميع دون تنظيم، فكل شخص يجب أن يأخذ نصيبة من الدولة وممتلكات المعابد بالقدر الذي يكفيه ويسد رمقه، في سبيل ذلك طبق الملحدون مبدأ (قصر الشعب)، وهو فكرة "شيوعية" قديمة معنية بأيلولة جميع الممتلكات الخاصة لصالح الدولة، هذه الفكرة التي تم تنفيذها حديثاً في الدول الاشتراكية مثل مصر والسودان، فصودرت حينها جميع املاك الناس، وسُخروا للعمل فيها لصالح الدولة.

    

لكن ما لبث أن فشلت التجربة بعد أن رفض المزارعون العمل في أرضهم طوال العام ثم تسليم نتاج محاصيلها إلى الدولة فهربوا من المزارع، وهجروا قراهم، وتشتتوا في الارض سعياً للرزق في محاربة المبدأ الشيوعي، وهو ما حدا بالمؤرخ "إميل لودفينغ" للقول (لا جديد تحت الشمس) في استعراضه لتجارب الإنسانية ومتوالياتها المتتابعة.

    
   
وفي مبدأ عبر عنه "برنارد شو" قائلا "التاريخ يعيد نفسه ويكرر أخطائه، لضعف ذاكرة الشعوب" ومازالت بعض الحركات والحكومات والطرق الدينية في وطننا العربي تُمارس نفس النهج والجبروت الذي قام به "بيبي الثاني" باستغلاله للدين في تسيير مصالحه ومصالح الكهنة رجال الدين، مما يقود إلى ما هو حادث الأن من تفكك اجتماعي وإلحاد ديني، وسلب ونهب، ينفي الحقيقة الوجودية ويقود إلى الاشتباك مع العقيدة وتضليل الطريق الموصل إلى الله.

      
يجب علينا أن نفصل بين الدين والسياسة التسييرية لأمور الدولة، لا يجب الخلط ابداً بين الشرائع الدنيوية والشرائع التعبدية الربانية، لا يجب علينا أن نقدم صورة مشوهه للأديان، أنها من عند الله وإرادتنا للمنافع الدنيوية هي من عندنا، لا يجب تبريرها باسم الإله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.