شعار قسم مدونات

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..

blogs sad

لو عدنا لقديم الزمان وفتشنا في تاريخ البشرية، لوجدنا أنهم دائماً ما كانوا عبئاً على بعضهم البعض ولكنّهم لا محالة يعيشون سويةً حيث ليس لسنّة الله تبديلاً، فالحياة تكاد تكون موحشة بلا مشاركة الآخرين! ومن هنا وجدتُ طرحاً لا بدّ أنْ أبديه بل ربما يتصدر في المراتب الأولى من مواقفنا الحياتية، أذكر أنّه قيل لي ذات مرة: "من لا تهزُّه الكلمة لا يهزّه السيف" حينها عدتُ أدراجي فوجدتُ أنّ كثيراً من الناس تأوّهت قلوبهم وغادرهم النوم في إحدى الليالي من كلمة قالها أحدهم على سبيل المزاح أو ربما الأذى، وكثير منهم أيضاً سمع كلمة من أحدهم قيلت له بحب، فعاش مع وقعها في نفسه حتى وصل للعلا!

أو سألتَ نفسك يوماً كيف لكلمة أن تحدِث العجب في حياة الناس؟ هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتأذى ويضيق صدره من أقاويل البشر التي استهزأت به وكذبته وألقت عليه التُّهم زوراً وبهتاناً حتى نعتوه بالجنون وهو الصادق الأمين صاحب الإيمان ذو العقل! ولكنه صبر فواساه الله في قوله تعالى:"وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين" فكيف نحن بجبلتنا البشرية ومزاجنا الإنساني، وما هو المآلٍ الذي سنصبح عليه لو وُجِّه إلينا ما نكره من القول مِن سفيهٍ لم يقوَ على ضبطِ نفسه، أو جاهل لمْ يُدْرِك ذاتَه، أو مُتطاول لا يخاف الله؟!

كل كلمة نتفوّه بها تبقي أثراً في دماغ المتلقي، وتنبت في ملامحه لا إرادياً، فاللّفظ الجارح يحدث جروحاً غير مرئيّة في الدماغ فتتلف بعض من خلاياه وتجعل تفكير الإنسان سلبياً ويشحب وجهه، كما يبطؤ إنتاجه

وقلّما يذهب ما يحدثه سوء الكلمة من ندوب، وكأن ذاكرة القلب أبت أن تنسى!‎‎ وكم من شخص أعذاره سبقته ولكنّها استترت ولو تكشفت أوراقها لنا لرقّت قلوبنا لحال بَعضنا، وفكرنا مئات المرات بقول أو سؤال يضيقُ به الآخرون ذرعاً، فمثلاً نرى أناساً تسترسل في طرح الأسئلة فيما يعنيها أو لا يعنيها من شؤون وحياة وعلاقات وحركات وسكنات الآخرين تحت مسمى الاهتمام، وما هو في الحقيقة إلا ليشبع المرء فضوله، أو قضاء المرء حاجة غيره فيتبعها بالمنّ والتباهي بما قدمه له من إحسان عند أول خلاف ينشب بينهما تحت مسمّى العطاء "قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى".

وقد يصبح لسان البعض فظاً رديئاً مع الناس كردّ فعلٍ لمعضلة يمر بها، أو تقديم نصيحة لأحدهم على الملأ وما يعقبها من فضيحة دون احتساب لشعور الآخرين، وغيرها من المسوّغات الزائفة للألفاظ والكلام الخاوي من معناه الحقيقي ورداءة الوقت الذي يقال فيه، إلا من رحم الله. قلّ إن تجد من يُسمِعَك الكلمة الإيجابية -وما أحوجنا إليها- أو يثني على جميلٍ فعلته، فالنّاس تحترف تدمير النفس البشرية والغيبة والنميمة وإشعال الفتن، وكلها تكمن في كلمة! ثم ماذا؟ ثم لا يحصدون شيئاً إلا خسارة أنفسهم كمسلمين فالمسلم من سلم المسلمين من لسانه ويده، وصمت المرء أحياناً أسلم من أن يتفوه بكلمة تقع كالرصاصة في قلب الآخر.

إنّ كلام الإنسان من عمله، وكم من أمرئ ألقى كلمة في غفلة من عقله لم يلقِ لها بالاً، هوت به وبفعله الحسن ما جعله ينقلب على عقبيه، ويحسب قوله هيناً وهو عند الله عظيم. وصدقاً إنّ المرء الذي يلجم لسانه عن أَذى الغير ويهذبه لهو أمرؤ قد عانى كثيراً ليمتلك تلك القوة! من ناحية أخرى استوقفني موقف للإمام البرزالي حين قال للعالم الحافظ الإمام الذهبي "إنَّ خطك هذا يشبه خط المُحدِّثين" يقول الذهبي: فحبّب الله لي علم الحديث! تأملوا معي لقد قال الإمام البرزالي كلمة واحدة فقط للذهبي من باب الاستحسان فشحذ همته وامتلأ قلبه وعقله بها، فكان هذا الأثر العظيم في نفسه ليصبح من أئمة الحديث ونقّاده وحفّاظه!

وقصة أخرى من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، في أول يوم لنزول الوحي عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من غار حراء وقلبه يرتعد من الخوف حيث دخل على زوجته خديجة -رضي الله عنها- وهو يقول: زمّلوني زمّلوني.. فاستجابت له فزمّلته حتى ذهب عنه الرّوع وهدأَت مشاعره، فأخبرها: لقد خشيتُ على نفسي، فخاطبته في هذا الموقف بالاعتماد على خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم قائلة: "كَلا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" ‏‎فلم تكتفِ بالقول: لا تخش على نفسك شيئاً! وهل هذا القول يكفي لتَنجلي الخشية وتشيع مكانها الطمأنينة؟! وهذا الموقف إن دلّ على شيء يدل على أهمية انتقاء الألفاظ بما يناسب الموقف، وهذا يعني أيضاً أنّ ملء خزانات النفوس بألفاظ التشجيع والدّعم المؤنسة والأمان العاطفي في أوقات القلق هو منهج إلهي نبوي!

ولا تقلّ أهمية هذا الموضوع على الصّعيد الأسري في دعم منظومة التربية القوليّة، وعدم الاستهانة بالكلمات التي تُسمَع بشكل دؤوب، لأنها تُترجم لإيحاءات ومن ثم لسلوك، فيتعدّل اعْوِجاج الفرد فيها، وينعكس على الصعيد المجتمعي، فالتربية تبدأ بكلمة وتستمر وتنتهي بكلمة، فهذا عبدالله بن عباس الملقب بحبر الأمة عرف مسلك حياته في بداياتها من أيام الطفولة، حيث كان الرسول كلما رَآه في أي فرصة أو مناسبة دَنا منه مربتاً على كتفه وهو يقول: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، وهذا التكرار جعل ابن العباس يصل الى مرحلة إدراك واستعداد عقلي دفعاه بقوة بأنه خلق للعلم والمعرفة.

undefined

ومن الجدير ذكره من ناحية علمية أنّ كل كلمة نتفوّه بها تبقي أثراً في دماغ المتلقي، وتنبت في ملامحه لا إرادياً، فاللّفظ الجارح يحدث جروحاً غير مرئيّة في الدماغ فتتلف بعض من خلاياه وتجعل تفكير الإنسان سلبياً ويشحب وجهه، كما يبطؤ إنتاجه، بالمقابل فإن اللفظ الطّيب ينعت بالمعسول لأنّه يخلّف في الدماغ ما يخلّفه تناول السكر والعسل، فيشرِق وجه المرء لأن بعض مراكز المخ تفرز مادتي الاندروفين والنكيفالين لتؤثرا على مراكز الانفعال تحت المهاد فيتأثر افراز الغدد الصماء،‏ وهكذا تتجدد طاقة الجسم ويستعيد عافيته النفسية والصحية،‏ فينشرح الصدر وتزيد القدرة على التنفس.

كما ويدرك الإنسان الذكي اجتماعياً بأن كل كلمة أو تعبير أو فكرة من الممكن قولها بأكثر من مئات الكلمات والألفاظ والمعاني أي كسوتها، فهناك قصة لأحد الخلفاء حيث رأى في منامه أنّ أسنانه سقطت، فاستدعى أحد المعبّرين وقصّ عليه رؤياه، فقال له المعبّر: سيموت أهلك وتبقى أنت! فهلع الخليفة وتغيّرت ملامحه، واشتد غضباً وحنقاً، وأمر بمعاقبته وأخذ يطلب معبرا ً آخر، فقال له: ما شاء الله هنيئا ً لك يا أمير المؤمنين إن هذه دلالة على طول عمرك، فاستبشر الخليفة وفرح، وأمر بإعطائه جائزة بالرغم أنه إذا طال عمره فسيموت أهله، نعم المعنى واحد ولكن بتعبير مختلف، فالنّاس دائماً ما تميل للطيب من القول.

فكن هيناً لين القول، ولا ترهق أرواح البشر أكثر وأسعف بمعجمكَ أنتَ خراب هذا العالم! وحذار أن تكون الشخص المتملق الذي يستخدم معسُول الكلام في مواقف لا يستطيع فيها ضبْط السُّوء في جوفه، لأنها حتماً لن تصل، وليس من خُلُق المؤمن الملق. ثم ترفق بكلامك على مخالفيك فلا تشحنهم بشحنات عداء جديدة تمنحهم طاقة إضافية للشرّ وأذيّتك بشكل أكبر. ثم من لديه مصابٌ في حياته نحن نعلم به، فبدلاً من الدعاء له في المجالس على الملأ وتذكيره بمصابه في كل مرة نراه بها، فحبَّذا لو ندعُو له بظهر الغيب فإن هذا أسرع استجابة وأقل ضرراً على نفسه وإنه لأصدق شعور تقدمه له.‎

وفي خضمّ ضوضاء الحياة السلبية التي نعيشها ‎إيّاك أن تعاتب الأشياء الجميلة فيك لمجرّد أنَّ أحدهم أسمعك شيئاً فيه ما يضرّك، أو أصدَر حُكماً عليك لهَفوة عابرةٍ صدرت منك، وإِنْ كان فلا بأس أن تراجِع بناءك الداخلي وتقوّمه وتفتح الباب للثُّقات الجديرين لتغييرك للأفضل وانظر بتأمل لما يقولون في أدقّ شؤونك، وإن شعرت بالضيق يزور قلبك ترفّع بكل رقي مبتعداً عن دنيا الناس ليصفو ذهنك وتستعيد عافيتك، فتعود للحياة بقلب جديد ينضح بأطيبِ اللفظ، فتملي على نفسك ومحيطك إيجابية. وأخيراً.. أودُّ أن أقول خاطرة كنت قد كتبتها من قبل: "في بعض المعزوفات حذارِ أن تصرَّ على إتمامها، خاصة إن وصلت إلى وترها الحساس، فلربما تقطعه ويطير حُلمك والمعزوفة التي تملِك، رفقاً بوقْع الكلام الذي تنطِقْ رفقاً بمسامع البشر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.