شعار قسم مدونات

آخرُ المقاتلين.. وصراع الهويّة

blogs أطفال الحرب

فَوضى عارِمة تُهدِّدُ أرجاءَ الغُرفة.. أوراقٌ وكتبٌ مُبعثَرَة مِن حَولي هُنا وهُناك فَهذا كِتابُ الإِدارةِ المُنغَلِقِ على ذاتِهِ مُنذ بدايةِ الفَصل وذاكَ كتابُ الإِعلانِ يَقِفُ مُنتصباً على حافَّةِ الطَّاولة وكأنَّ كلماتَهُ تَخرُجُ عَن نَظمِ سُطورِها تَمُدُّ لي بِلسانِها مُستَفِزَّةً لآخرِ ما تَبقَّى مِن ضَميري الدِّراسي وتِلكَ نوتَةُ البرامجِ الإذاعيَّة وبضعُ محاضراتٍ تعودُ لمادَّةِ اللُّغةِ الفِرَنسيَّة مَضى عَلَيهم جميعاً وقتاً طويلاً بانتظارِ عقلي لالتهامِ مُحتواهُم.

أُرسلُ نظرةً بائسةً على المكتبةِ المُهملة والتي ترتكزُ صدرَ الغُرفةِ فأرى مجموعةً من الرِّواياتِ والكتبِ جميعَهم قد اصطفوا بطريقةٍ عبثيَّة بعدَما غَلَّفَهُم غُبارَ النِّسيان طامعينَ بِنفخةٍ مني على جُلودِهم النَّاعمة لإزالةِ ذلكَ اليأسِ العالقِ عليهم. الجوُّ كئيب والانقطاعُ المُتَكرِّر للتيارِ الكهربائي أضافَ الطِّين بِلَّه والهواءُ الآتي مِن الخارجِ المُحَمَّلُ بموجاتِ الحَرِّ القاتلة يدخلُ مُخترقاً النافذةَ المُشرَّعةَ على مصراعَيها غيرُ عابئٍ بقطعةِ القُماشِ التي تسترُ الحائطَ المُتراقصةِ يمينا ويساراً كَغجريَّةٍ حزينةٍ أُجبِرَت على الرَّقصِ في ذلكَ التَّوقيتِ الخانق وأكادُ أُحِسُّ أنَّ الغرفةَ ستنفجرُ من درجةِ الضَّغطِ المُرتفعِ.

أجلِسُ متكوِّرةً على حافَّةِ السَّريرِ الحديدي وأقومُ باللَّاوعي بِعَدِّ العُقدِ والنُّتوءاتِ المُزَيَّنِ بها أُفَكِّرُ كَم يبلُغُ عُمُرُهُ أهوَ أكبرُ مني أم أصغر أنا حقَّاً لا أدري من الذي أتى بهِ إلى هُنا ولا أدري كم يبلُغ عُمُرُهُ الحقيقي حسناً أنا لا أهتمُّ بمعرفةِ عُمُرِه وليست مُشكِلَتي إنْ كانَ أصغرُ مني أو أكبر حتّى لا أهتمُّ بمعرفةِ علاقَتِه بِهذا البيت آه نسيتُ أن أخبِرَكُم أنَّهُ ليسَ بيتي أصلاً فوحدَهُ اللهُ يعلمُ كم مِن أسرارٍ أَسَرَّها هذا السَّرير في سريرتهِ كُلُّ ما يُهِمُّني الآن أنَّهُ الوحيدُ الذي احتوى جسديَ المُتهالك من فرطِ التَّفكير.

 

إنَّ من أكثرِ الأشياءِ تعقيداً في زمنِ الحرب هو فَقدُ المَقدِرة على تحليلِ الأمور وتَفَهُّمِ الأشياءِ بشكلٍ سليم، قلوبُنا تَصَدَّعت وفَقَدَتِ الشَّهيَّةَ على إكمالِ الحياة حتَّى أنَّها أضاعَت مقاديرَ الوصفةِ

دقَّاتُ القلبِ مُزعجةٌ حينما تتسارَع وحدَهُم الذينَ يُعانونَ مِن تَسَرُّعٍ في ضَرَباتِ القلبِ يفهمونَ ما أقول يبدو أنَّني مريضة لا ليسَ مُجرَّد تخمين أنا حقَّاً مريضة وانطوائيَّة ولا أرغبُ في أن أكلِّمَ أحداً وأُفضِّلُ المُكوثَ لوحدي طِوالَ اليوم أكرهُ الضَّوضاءَ والأصواتَ العالية وأصبحُ أكثرَ توتراً وحساسيَّةً عندما يكتظُّ البيتُ وأحياناً أميلُ إلى البُكاءِ في مثلِ هذهِ الأجواء.

لازلتُ مُستلقِيةً على السَّرير لا أنوي على فعلِ أيِّ نشاط أُقَلِّبُ صَفَحاتِ مُذَكَّرَتي على الجوال بِتَمَلمُلٍ وعدمِ تركيز فأجدُها ممتلئةً بالمواضيعِ التي لم تكتمل أقومُ بشكلٍ لا إرادي بِعَدِّ تلكَ المواضيع واحد اثنان ثلاثة خمسة ما كُلُّ تلكَ الموضوعاتِ المُزعجة كُلُّها تتحدَّث عن نفسِ المشكلة آه ياربي قاتَلَ اللهُ تلكَ الحُروبِ اللَّعينةِ ماذا فَعَلَت بأنفُسِنا.

إنَّ من أكثرِ الأشياءِ تعقيداً في زمنِ الحرب هو فَقدُ المَقدِرة على تحليلِ الأمور وتَفَهُّمِ الأشياءِ بشكلٍ سليم، قلوبُنا تَصَدَّعت وفَقَدَتِ الشَّهيَّةَ على إكمالِ الحياة حتَّى أنَّها أضاعَت مقاديرَ الوصفةِ التي تفتحُ النَّفسَ على البقاء. تأخُذُني ذاكِرَتي المُتَهالكة إلى التَّفكيرِ بمصيرِ أحدِ المقاتلينَ الذينَ عَرَفتُهُم …ذلكَ المقاتل الذي شَهِدتُ على يومِ مَولِدِه وعاصرتُ فترةَ طفولَتِهِ القصيرة. نعم قصيرة فالحربُ قد انتزَعَت منهُ هُويَّةَ الطُّفولَةِ باكراً واستبدلتها بِهُويَّةِ مُقاتِل.

كيفَ السَّبيلُ لإقناعِ ذلكَ المُقاتِلِ الصَّغيرِ أنَّ زمنَ السِّلاحِ قد انتَهَى وأنَّه يجبُ عليهِ أنْ يتهيَّأَ للدُّخولِ بالمرحلةِ الجديدة مرحلةِ الاستسلامِ ورمي البندقيَّة وراءَ ظَهرِه وأن يفتحَ صدرَهُ. للمُصالَحَاتِ المُغَلَّفَةِ بِبُنودِ الذُّلِ والقهرِ مُلَوِّحاً بكلتا يديهِ لأصدقاءِ الخنادق الذين ارتحلو إلى مثواهُم الأخير وأن يقومَ برمي شريطِ الذِّكرياتِ المُتَعَلِّق بِهم في أسفلِ دُرجٍ بذاكرَتِه وأن يُمَزِّقَ كُلَّ الصُّورِ التي جَمَعَتهُ بهم فَعهدُهم قد انتهى وولَّى.

الحروبَ لعبةٌ قذرة لا يوجدُ فيها ضماناتٍ ولا محاكم ولا حتَّى قُضاة اسمُ العدالةِ قد يتمُّ طَمسَهُ بدلوٍ من دهانٍ أحمر فالكلُّ ظالمٌ والكلُّ مظلومٌ الكلُّ تشاركَ في تمزيقِ هُوِيَّةِ الطفولة
الحروبَ لعبةٌ قذرة لا يوجدُ فيها ضماناتٍ ولا محاكم ولا حتَّى قُضاة اسمُ العدالةِ قد يتمُّ طَمسَهُ بدلوٍ من دهانٍ أحمر فالكلُّ ظالمٌ والكلُّ مظلومٌ الكلُّ تشاركَ في تمزيقِ هُوِيَّةِ الطفولة

كيفَ لذلكَ المُقاتِلِ اليافعِ الذي تبرمجَ على أنَّ الغدَ ليسَ لهُ أنْ يقتنعَ بِشطبِ كُلِّ ضَحكاتِ أصحابِهِ وذكرياتِ جلساتِ الوردِ الجماعيَّة وأصواتِ أخوةِ السِّلاحِ الحانية هو الذي ما تعلَّمَ منَ الحياةِ شيءٌ أكثر من أن يكونَ بأتمِّ استعدادِهِ لاستقبالِ الموت بِوجهٍ باسم ذلكَ الذي لم يعتدْ إلَّا على الأجواءِ المتوترة حتَّى أنَّهُ لا يوجدُ في قاموسِ حياتِهِ شيءٌ يُسَمَّى بالرَّاحة وبإمكانِكُم معرفةَ ذلِكَ من خلالِ عُروقِ يَدِهِ المشدودةِ دائماً. هو بريءٌ إلى الحدِّ الذي لا يمكنُ توقُّعُه فيكفي أنْ تُحَدِّقوا بعينيهِ لِتَرَوا طفلينِ أكبرَ حُلُمٍ لهما اللَّعِبُ بكرةِ قدمٍ صُنِعَت مِنَ القَش هل بإمكانِكُم أنْ تردُّوا إليهِ ذلكَ الطِّفلِ الذي تلاشى بقسوةِ الحربِ والدَّمار.

ماذا عساهً أنْ يفعلَ إزاءَ هذهِ القرارات كيفَ لهُ أنْ يتأقلمَ مع واقِعِهِ الجديد وهُوِيَّتِهِ الجديدة ذلكَ المُقاتِل الأخيرِ الذي تآمرَ على صِدقِهِ الجميع هم لم يذبحوه لكنَّهم ذبحوا فيهِ الحياةَ ورغبةَ البقاء قتلوا فيهِ حِسَّ المُتعةِ بالأشياءِ البسيطةِ والعفويَّة صنعوا منهُ رجلاً قبلَ أوانِهِ ومن ثُمَّ سرقوا الحُلُمَ الذي كَبُرَ باكراً لأجله.

الشيءُ المقيت أنَّ الحروبَ لعبةٌ قذرة لا يوجدُ فيها ضماناتٍ ولا محاكم ولا حتَّى قُضاة اسمُ العدالةِ قد يتمُّ طَمسَهُ بدلوٍ من دهانٍ أحمر فالكلُّ ظالمٌ والكلُّ مظلومٌ الكلُّ تشاركَ في تمزيقِ هُوِيَّةِ الطفولة والكُلُّ شجبَ واستنكرَ ذلكَ العمل.. أَتَخَيَّلُ ذلكَ المُقاتِلَ وهوَ يَتَوَسَّدُ تِلكَ الصَّخرةِ الصَّماءِ غيرُ عابئٍ بقساوَتِها لأنَّ الذي يعتريهِ أقسى مِنها بكثير يجلسُ شاردَ الذِّهنِ حائِراً وقد تمدَّدَت أمامَهُ بندقيَّتُهُ كَجُثَّةٍ هامدة يُفكِّرُ ملياً ماذا عساهُ أنْ يفعلَ أيشجبُ ويستنكر أينَ عساهُ أنْ يلوذَ بالفرارِ من تلكَ الأفكارِ التي أكلَت جمجمَتَه ينظرُ إلى السَّماءِ ويطلِقُ صَرَخاتٍ مدويَّة تفضحُ كُلَّ قُبحِ العالمِ وبشاعَتِه ومن ثُمَّ يبكي بكاءً حارَّاً يغسلُ قلبَهُ المُعَذَّب ويسترسلُ بالدُّعاءِ المختومِ بعبارةِ يا الله مالنا غيرك يا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.