شعار قسم مدونات

التعذيب.. بين الهوس النفسي وتبجيل المعتقد!

blogs التعذيب بالسجون

قد يتخيل البعض بشاعة التعذيب فتشمئز نفسه وتنفر لمجرد التفكير في ذلك، خاصة الأشخاص المسالمين ذو الأحاسيس المرهفة. لكن قد تكون ممارسة التعذيب أسهل مما يتصور المرء، بل وأكثر سهولة من تخيله، طالما توفرت الظروف وتهيئت الأجواء والدوافع لذلك. فما الذي يجعل ممارسة التعذيب سهلة لهذه الدرجة؟

قد يمارس التعذيب لسببين، الأول دفاعا عن معتقد أو قضية ما، أو إرضاءا للذات نتيجة هوس نفسي.. كلاهما مرعب.. صحيح؟! الأكثر إرعابا هو معرفتك سهولة ممارسة التعذيب لذات السببين، وقد تكون تجربة "ميلغرام" أحد أشهر التجارب النفسية التي خلصت إلى أن أغلبية الأشخاص قد يصبحون جلادين حالما تتاح لهم الفرصة، وكيف أن جل المتطوعين لهذه التجربة لم يحركوا ساكنا لرؤيتهم متعلمين يتعذبون صعقا بالكهرباء، بل كانوا في قمة البرودة، أكثر من ذلك كانوا هم من يتحكمون في فولتية الكهرباء. هؤلاء المتطوعون هم أناس عاديون مثلي ومثلكم، لكن حينما ينتفي وازع الردع ويتعزز مفهوم تنفيذ الأوامر والطاعة العمياء، يصبح كل شيء مباحا خصوصا في ظل عدم التزام الشخصية.

الهوس بالاستمتاع بألم الآخرين أو ما يصطلح عليه بالسادية ليس مرضا نفسيا أكثر مما هو شعور، يشعر به كل شخص منا بدرجات متفاوتة، نتيجة تربية ونشأة الأفراد أو نتيجة ذكرى أليمة أو حادث معين صادف الشخص في فترة من فترات حياته. وتختلف السادية في درجاتها من سادية مقبولة كما اصطلح عليها الخبراء فسادية خفيفة ثم السادية الإجرامية، هذه الأخيرة تمس 10 في المئة من المجتمع، فيما توزع 90 في المئة الباقية على الفئتين الأخريين. هذه الدراسة تؤكد أن أي فرد من المجتمع كيفما كانت طبقته الاجتماعية أو مستواه الفكري والثقافي قد يتحول في أي لحظة لجلاد، يستلذ بتعذيب الغير رغم الاختلاف في احتمالات حدوث ذلك بين الساديين الإجراميين والمقبولين. لكن لنطرح السؤال، هل انتفاء الوازع الأخلاقي أو الديني وحده كفيل ببعث الجلاد الكامن داخل كل واحد منا؟

كانت محاكم التفتيش تمارس أبشع طرق التعذيب على كل من يمس المسيحية أو يكون ضد تشريعاتها، فكان اليهود المتحولون من اليهودية إلى المسيحية أول ضحاياهم

بالرجوع الى تاريخ التعذيب عبر العصور نجد أن النصيب الأكبر منه مورس لأسباب معتقداتية ودينية محضة، بداية بالحضارات القديمة كالأزتيك والمايا في تقديم القرابين للآلهة والقبائل البدائية كالفوري (شمال أستراليا) والمساي (كينيا) الآكلة للحوم البشر وصولا إلى الديانات السماوية والغير سماوية التي نعايشها في هذا العصر. كان السبب الأول والرئيسي لممارسة التعذيب التقرب من الإله كل حسب معتقده وديانته، فكلما كان التشبث بالمعتقد قويا كلما كانت القابلية لممارسة التعذيب أكبر.

لن نتطرق للتعذيب في الحضارات القديمة والقبائل البدائية بحكم انفرادها في محيطها أنذاك وغياب أي تشريعات أو قوانين موضوعة، لكن سنأخذ تاريخ التعذيب من مرحلة العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة ومحاكم التفتيش في بداية نشاطها في الغرب وبداية انهيار الدولة العباسية في الشرق. في هذه الفترة، عرف التعذيب أزهى فتراته عبر التاريخ، فترة تعددت فيها أساليب ووسائل التعذيب واخترعت فيها أدوات جديدة لذلك.

كانت محاكم التفتيش تمارس أبشع طرق التعذيب على كل من يمس المسيحية أو يكون ضد تشريعاتها، فكان اليهود المتحولون من اليهودية إلى المسيحية والمتهمون بممارسة شعائرهم الأصلية سرا أول ضحاياهم، وصولا إلى المسلمين حين سقوط الأندلس، ومرورا باللادينيين والساحرات والمشككين وبائعات الهوى. طبقت الكنيسة أشد الأحكام ووظفت أعتى الجلادين لتنفيذها، بدعوى تطهير الأرواح وتخليصها من العقاب الأبدي، أو عملا بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" والتي تبرر التعذيب بما لا يدع مجالا للشك في صحة الفعل ومباركته من الرب.

لم يكن الوازع الديني والأخلاقي رادعا لممارسة التعذيب بل ربما في بعض الحالات كان سببا لذلك، كما أن التعصب لمعتقد ما أو لأي قضية من القضايا قد يكون دافعا آخر
لم يكن الوازع الديني والأخلاقي رادعا لممارسة التعذيب بل ربما في بعض الحالات كان سببا لذلك، كما أن التعصب لمعتقد ما أو لأي قضية من القضايا قد يكون دافعا آخر
 

وفي الوقت الذي تصول فيه محاكم التفتيش وتجول جورا في أوروبا في بداية القرن الثالث عشر كانت الدولة العباسية تقترب من نهايتها شرقا. لقد كان مرورها من عدة هزات منذ سيطرتها على الشرق إبان سقوط الحكم الأموي إلى نهايتها بداية القرن السادس عشر سببا في ابتداع طرق مختلفة للتعذيب. في الدولة العباسية يمارس التعذيب على مخالفي العقيدة شكلها شكل محاكم التفتيش، لكن في الحقيقة كان القسط الأكبر من التعذيب يمارس على المعارضين للحكم العباسي. وكان أبو العباس الملقب بالسفاح قد أعدم فرقة من الأمويين كانوا في ضيافته بعد أن أعطاهم الأمان عن طريق ضربهم بالحديد على رؤوسهم وتناول الطعام على أجسادهم وهو يستمع لأنين احتضارهم، كما ابتدع الخليفة المعتضد التعذيب بقطع الأوصال وسلخ الجلد، وأحيى الخليفة هارون الرشيد أمجاد التعذيب الروماني باستعمال الحيوانات المفترسة لتعذيب بعض معارضيه كما حدث مع يحيى بن عبد الله بن الحسن المثنى.

في كل الحالات لم يكن الوازع الديني والأخلاقي رادعا لممارسة التعذيب بل ربما في بعض الحالات كان سببا لذلك، كما أن التعصب لمعتقد ما أو لأي قضية من القضايا قد يكون دافعا آخر، وما زال إلى يومنا هذا. في الأخير نجد أن المعادلة سهلة للغاية، حينما تجتمع السادية والغلو في تقديس شيء ما ينتجان جلادا. كل منا يقدس شيئا كيفما كان، فكرة أو معتقدا أو دينا أو قضية، وكل منا ساد بدرجة من درجات السادية الثلاث، تكفي فقط تلك الشرارة التي ستطلق الجلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.