شعار قسم مدونات

اعترافات عن الخوف والشجاعة في غزة

blogs فتاة من غزة

الحروب لا ترحم، لكن هذا لا يبرر تصرفاتنا الحمقاء خلالها؛ نحن نقود معاركنا الخاصة مع مخاوفنا خلال أوقات الكوارث، وهذا قد يجعلنا نتصرف بطريقة غير منطقية. لقد عشت أوقات خوفٍ كثيرة خلال عمري، أنا فلسطينية عاشت عائلتي ويلات النكبة وذاقت انكسارات النكسة، ثم أنجبتني عائلتي "للأزرق" في زمن تشابهت فيها الرمال.

وعيت على أخبار حرب لبنان وقصص أهوالها ومذابحها، ثم عشت تفاصيل الحياة اليومية في انتفاضة الحجارة، وعشت سنوات مراهقتي أتابع حرب الخليج وحصار العراق، وأستقبل انهيارات الرموز المدوية، وأرى صقور بلادي تتخلى عن مخالبها وتلبس رداء الحمائم، واحترقت سنوات شبابي الأولى في انتفاضة الأقصى، ثم أكمل عليها انقسام بشع وثلاث حروب مفجعة. وها أنا عجوزٌ في الأربعين، أتكئ على قلبي المتعب، أغادرني لأعود إلي، لأنني لا أجد وطنناً يحتضن بؤس ذكرياتي، لا عجب فأنا فلسطينية، وأعيش في غزة. يُقال أن لي من اسمي نصيب؛ يقولون عني قوية حد الجبروت، ولا أنكر أنني أحياناً أفاجئ نفسي بأنني كذلك، لكنني لا أكون هكذا دائماً. لا أحاول تضليلكم، أنا فقط أحاول الدخول للمنطقة المحرمة من وعيي، بأقل قدر ممكن من الخسائر النفسية، ولو كنت أقل قوة لكان وعيي كله محرماً! 

خلال الأوقات العصيبة من عمري، خاصة تلك التي تضمنت القصف العشوائي والمذابح واحتراق المباني بأهلها، ألبست نفسي درعاً إجبارياً من القوة الشكلية، ووقفت بكل غضبي أتحدى خوفي كسمكة في مواجهة تسونامي، لم يهمني كم بدا هذا هزلياً، ظننت أن درعي كفيل بأن يحمي هشاشتي خلفه، وتلقيت كل الضربات المباشرة بلا حماية حقيقية، تظاهرت بأنني ثابتة عصية على السقوط، حتى أنني خلال حرب 2014 ادعيت أنني أشعر بالأمان، لما رأيته حينها من توحد الصف خصوصاً على المستوى الشعبي وقلت حرفياً: "أنا اليوم أشعر بأمان لم أشعر به منذ سنوات مللت من عدها.. اليوم نحن يد واحدة.. شعب واحد.. يطلق شهداءه نحو السماء ويسقط المتعلقين بثوبه تطفلا! نعم غزة تحت القصف لكن اليوم فلسطين كلها تقاوم.. نابلس جنين رام الله مدن الداخل.. عدنا جسدا واحدا.. يا للروعة"!

الحقيقة أنني ما أزال أعاني حتى اليوم من آثار تلك الحرب الشنيعة وأختيها سيئتي الذكر، الحقيقة أنني حتى اليوم كلما أغلقت نافذة أجفل للحظة، وأنا أتخليها تنفجر في وجهي

حسناً دعوني أعترف؛ لقد كذبت، لم أكن أعي ذلك حينها، لكن الآن أعرف أنني لم أكن أشعر حقيقة بالأمان، كل ما في الأمر أنني تفاعلت بشكل عاطفي أهبل مع نسمة الوحدة المزيفة التي هبت على وجه غزة المحترق، علاوة على أنني لم أكن لأسمح لأحد أن يراني خائفة أو يظن أنني كذلك. هذا لم يكن حقيقياً؛ هل تريدون أن تعرفوا الحقيقة؟

الحقيقة أنني ما أزال أعاني حتى اليوم من آثار تلك الحرب الشنيعة وأختيها سيئتي الذكر، الحقيقة أنني حتى اليوم كلما أغلقت نافذة أجفل للحظة، وأنا أتخليها تنفجر في وجهي، الحقيقة أنني لا أستطيع نسيان صور الجثث المحترقة، وكلها تشعل النار في قلبي، حتى صورة الشهيد الضاحك الشهيرة تلك التي تغزلت بروعتها، الحقيقة أن روحي ترتجف كلما تذكرت المساء الذي قصفت فيه الطائرات الإسرائيلية المسعورة منزل عائلة الدلو بالصواريخ المضادة للملاجئ، الحقيقة أنني انهرت بكاءً صامت أو صريح في كل مرة تم قصف منزل كامل فوق رؤوس ساكنيه، الحقيقة أن كل مذبحة كانت تهد ركناً في روحي، الحقيقة أنني تحضرت لكل الخيارات البشعة التي من الممكن أن تهاجم عائلتي، عشت الكوارث كلها بما فيها احتراقنا جميعاً تحت أنقاض بيتنا، أو أسوأ من ذلك؛ نزوحنا بعد هدمه، وحين أقول عشتها فقط قلائل ممن يعرفونني يستطيعون تخيل قسوة ذلك عليّ.

الحقيقة أنني بعد مرور أربع سنوات، أحاول أن أتحايل على وعيي، أن أتعامل مع ذكرياتي على أنها مجرد كوابيس وأنها بالفعل انتهت، وأنني يجب أن أنساها؛ لكنها ليست كذلك، فحتى صباح اليوم قاومت بشراسة فرضية أنني مصابة بالاكتئاب، لكن يبدو أنني يجب أن أفعل الصواب وأتوقف عن هذا السخف وأعترف لأستريح: نعم لقد كذبت؛ لقد كنت خائفة! وأتساءل الآن هل كان أمامي خيار آخر؟ إن لم أفعل ما فعلت، كيف كان يمكن أن أحمي نفسي من خوفها؟ مع ذلك لماذا اعتبرت خوفي عار أختبئ منه؟ والأمر لا يتعلق بي فقط، فالمكابرة سلوك فلسطيني منتشر على نطاق واسع خصوصاً في غزة.

سيكتب التاريخ حتماً عما يحدث في غزة، ولن نُذكر ولن تُذكر انكسارات أرواحنا، سنكون مجرد صفحة دامية مملة يحفظها طالب بائس لا يهمه مما يقرأ سوى العلامة التي ستحدد مدى تقبل محيطه له، ونحن لسذاجتنا نظن أننا ندٌّ للتاريخ لنعانده، ونتخيل أنفسنا حجارة تقف في طريقه ليتعثر بها عله يغير وجهته؟ دعونا من التاريخ الذي يقول كثيرون أننا نصنعه، لعلهم بالفعل محقون، لنعد لموضوعنا الأساسي، هل سأفعل/ سنفعل ذلك مجدداً؟ ها هي الحرب تطل على غزة متشفية، ما رأيكم هل أنفض كل هذا من رأسي، وأواجه خوفي منها؟ "أنت يا قبيحة.. لست خائفة!" جربت ثلاث حروب وانقسام وانتفاضتين، وأعرف أن الحرب لا تهتم بخوفنا، الحرب تأكلنا وتأكل قلوبنا وأرواحنا وبيوتنا وأبناءنا وشوارعنا ومدننا ولا تبالي بعذابات من/ما تبقى منا. ومع ذلك: أيتها الحرب، أنت يا قبيحة! هل تسمعينني؟! لست خائفة منك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.