شعار قسم مدونات

يدي التملّق ناعمة.. كيف تراجع المستوى القيمي للمجتمعات؟

blogs التملق بالعمل

في ظل ما بات يعرف بمخططات التنمية كسياسة ممنهجة، يبقى تحقيقها رهين بأساليب من الأهمية بمكان مهما قزمنا من حجمها، أدى التغاضي عنها بروز أخطار باتت تهدد قيم مجتمعاتنا في صلب شقها الأخلاقي إلى أن كُسرت أجنحة الطير الذي طالما أرهقه حلم معانقة مسيرة التنمية، والإلحاق بقطار التطور والتقدم على خطى الدول النّامية كما يطلق عليها، في حين أن معظمها مكبّلة بالتّراجعات، بعيداً عن أحداث نهضة حقيقية على المستوى القيمي، التعليمي، المجتمعي، والاقتصادي، كل بسبب تفشي ما بات يعرف بالأمراض الاجتماعية، وهو شأن الممارسات المتوّغلة في سلوكيات البشر وعدد من أسرة الوظيفة، حيث تضرب بأطنابها في خاصرة بيئة العمل، وعوض أن تنتج نخب مرموقة أنتجت متملقون على فراش من حرير.

فُقِدَتِ الحصانة في أداء الوظائف على أتمم الوجه، واختلطت الأوراق وتوهم العّامة، وغاب عنصر الثقة بين أطراف المجتمعات، كما لو كانت هذه هي الطريقة المثلى لممارسة الحياة بأفضلية وانتشاء والعيش حياة مثلى يحقق عن طريقها أهداف السمو والارتقاء، يستشرى شرُّهم ويتأصل تأصيلا في النفوس؛ تفقد الحصانة من دائهم، فيتفاقم خطرهم، ويستعصي علاجهم، إنه الخطر الدّاهم يا سادة.

يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تجدون شر الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه. حقا لا يوجد مجتمع من المجتمعات البشرية خالٍ من العيوب والأسقام الاجتماعية، ولكن هذه المثالب وإرهاصاتها تختلف معدلاتها وحجمها من مجتمع لآخر حسب درجة الوعي المجتمعي، العمق الحضاري والبعد الثقافي للمجتمعات بشكل عام، نظرًا للتطورات المسايرة زمانا ومكانا، عرف واقعنا المعاصر ظهور أمراض وأوبئة غير مألوفة المصدر ومتسللة التأثير، وإن كان العقلاء لم يلتفتون إليها، مكرهاً أخاك لا بطل دون اكتراث لحقيقة نفس خبيثة أوقعت به، مما استفحل لما وجد المناخ وتمكن، على اعتبار أن مبدأ حسن النية كان قائماً.

للأساليب الاجتماعية المدمرة أثرا سلبيّا بات واضحا، والأكيد أنَّ المتسلقون على المناصب يبحثون دائماً عن معاملة تفضيلية عن زملائهم، رغبة في التجاوز بمكانة وظيفية أفضل، وقرب من يرأسه

تأتي على رأس قائمة هذه الآفات الفتاكة آفة التملّق بشكلها العام، وبشكل أدق ذلك التملّق الممثل في التّملق الوظيفي، والنفاق الاجتماعي بأنواعه، كتجسيد للتسلّق وراء الحاجة والسعي وراء الشيء مهما كلّف الثمن وعلى حساب القيم والمبادئ والرجولة، وهنا أذكر لكم مثال السعي بطرق الغير المشروعة، بنيات مبيتة أساسها الوصول إلى المنصب، بحثاً عن تحقيق مصالح شخصية، وأهداف ذاتية بدوافع ذات شرارة، والمتملِّقُ هنا لا يجري ساعيا وراء التسلُّق إلا ليرتقي على الآخرين، بحيث أمله الوحيد هو جانبية المتألِّقين المُجدِّين وإراحتهم عن دربه بشتى الطرق والوسائل، ومهما كلفه ذلك. حيث تُعدُّ الظواهر السالفة الذكر من العمليات الاجتماعية الهدامة المفضية للفتك، بنكهات الكذب والمدح النفاقي وجزء كبير من الدعاية الرمادية وتقمص أدوار التلّون الحربائي، حيث باتت تتوغل توغل وحش البرية.

وما ذكر من مظاهر شأنها في هذا السياق، خاصةً مرض التملّق والتسلّق الوظيفي كمصطلحات واسعة لكن معناها أعم سيما عند بعض علماء الاجتماع وعلماء علم النفس، كما يطلق عليه عند العامة تعابير تَمَسكَنَ حتى تتمكَّن، أو الاستقماط، إنه نقص في المناعة يا سادة، ولا أحد ينكر حسب ظني وستتفقون معي وجود هذه الأساليب الاجتماعية الخارجة عن قواعد الضبط المتعارفة أكانت الأخلاقية، الدينية أو القيمية في أيّ مكان ووفق أي زمان، مهما خالف ذلك كلامه وسلوكه وقناعته وأخلاقه ودينه، سواءً في القطاع العام أو القطاع الخاص بما فيه نسيج العلاقات الاجتماعية والارتباطات الأسرية والعائلية التي يشوبها قصور أحابيل مكر المتملقين.

كما تعلمون لهذه الأساليب الاجتماعية المدمرة أثرا سلبيّا بات واضحا، والأكيد أنَّ المتسلقون على المناصب يبحثون دائماً عن معاملة تفضيلية عن زملائهم، رغبة في التجاوز بمكانة وظيفية أفضل، وقرب من يرأسه، وذلك من خلال ممارسة أساليب مناهضة لمعايير الوظيفة الأخلاقية وقواعدها المهنية السامية وقيمها التربوية، وهؤلاء المتلّونون كالحرباء يتحدثون بلغة التملّق اللاأخلاقي الخارج عن السلوكيات الطبيعية والنفاق الاجتماعي بدون وعي قيمي، ذوق إنساني، منهج حضاري أو طقوس راقية ترقى بمستواهم في أعين الآخرين، ومع ذلك رغم كيدهم، وارتقاء تلك الفئة لأعلى المناصب، وقمم المراتب وتسلق سلالم المسؤولية فلا تفرحوا لسعيهم.

ولا شك أن آفات من قبيل ما سبق ذكره في بيئة العمل تحديداً أكان التملّق، التسلّق أو النفاق الاجتماعي باختلاف التعابير لكن المقصد واحد، كداء مجتمعي نفسي، له أسبابه ودوافع أهمها نقص في التربية الأسرية يتسلل إلى عطب في النهج التوعوي التربوي وضعف الوازع الديني القيمي مساسا بوزر سامي قوامه الأخلاق، مما قد ينشأ عنه خلل وظيفي يعتري عملية التنشئة الاجتماعية، النفسية، التربوية، العقلية والوجدانية للمتملّق والمتسلّق، ممَّا يجزم في مسبباته كالمشاكل العائلية والمحيط البيئي المعكر، كعوامل تحول إلى التأثير على الحالة المزاجية للموظف من جهة، واستقراره النفسي، العاطفي والاجتماعي بالأساس من جهة أخرى مما يهدد استقرار وجوده وخلق اضطرابات تزعزع كيانه، بتعزيز من قرناء بيئة العمل.

ومن العجيب بما كان مما ينفي هذا الداء مع المبادئ، أن أولئك المحترفون في ممارسة التّملق لا يدركون أنَّ سلوكهم المنحرف عن مسار الضّبط القيمي، الشرعي والتربوي يخالف الفطرة الإنسانية قبل مخالفته للنظام الإنساني العام لتناقضه مع منطق اللاعدالة بينه وبين من يعلوه كفاءة، وشخصيا لا أجِدُ مبررًا للتملُّقِ حتى في حالة الضرورة؛ مما يؤكد عدم تطابقه بأخلاقيات المسلم المنبثقة من قواعد الشريعة الإسلامية ومنهجها القويم، يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: إن مَن خاف من الله خافَه كلُّ شيء، ومَن كان مع الله جعل الله الخلق كلَّهم معه، ومن أطاب مطعمه ومشربه استجاب الله دعاءه، وتبعا لذلك فإنَّ الموظف المؤمن بعمله صاحب المبادئ السامية والقيم الواعية والأخلاق الفضيلة يفرض احترامه بجده وقمة نشاطه وجمال مصداقيته ونزاهة ممارسته وأمانته، وبالتالي تبنى ثقته بربه والرغبة تكون لإرضائه ويجعل إنتاجيته في مجال عمله وسيلة نجاحه الوظيفي وارتقاءه في أعين رب عمله، وتميزه عند الرئيس المباشر أو مدير العمل ولا حاجة له بإيدز يخرب وازعه الديني قبل الإنساني.

يقال حبل الكذب قصير مما ينطبق على المتملقين، ووجب التخلص منهم بتجاهل شناعة أمر هذا الصنف بالبتر والعزل والتعامل بنوع من الجانبية، أملا في قطيعة تحول دون نقل عدوى وباء كهذا عبر الأجيال
يقال حبل الكذب قصير مما ينطبق على المتملقين، ووجب التخلص منهم بتجاهل شناعة أمر هذا الصنف بالبتر والعزل والتعامل بنوع من الجانبية، أملا في قطيعة تحول دون نقل عدوى وباء كهذا عبر الأجيال
 

ولذلك فإنَّ المتسلّق والمتملّق من الأشخاص المصنّفة ضمن قائمة الفاشلون، الذين غالبا ما لا يستطيعون أن يحققوا بقدراتهم الوظيفية ما يطمحون إليه، وتقزيما لسقف طموحهم إن كان مُسَطّرٌ لهذا الطموح أصلاً، فيلجأون إلى أساليب نقيضة لأدبيات العلم الرّصين، كالغيب والنميمة في الزملاء ونقل صورة غير صادقة عنهم للمن يعلوه بهدف تشويه سمعتهم مما يعزز مكانته هو عنده، والتلوّن بكل إسفاف واستخفاف لكسبِ الرضا، يصبح جثة، رخيص، غير طاهر، قد يلحق منه أدى، مما يعبر عن قبحه وإفلاسه الفكري وإعلان رسمي عن فشل شخصه الذريع، يصبح بعد ذلك منتهي الصلاحية.

يتضح مما سبق أنه إن لم يتم تفعيل الدور الحراكيّ للأسرة والمحوري للمؤسسات التعليمية، الثقافية، التربوية الفكرية والاقتصادية، كمؤسسات للتنشئة الاجتماعية والأكاديمية التعليمية بصفتها معنية عن طريق التوجيه والإرشاد والتوعية المجتمعية التي تؤثر أكثر من تأثير وسائل الإعلام شأنها شأن التنوير، فرحمة الله على مجتمع كاد أن يكون قواما، لأن الدور البنيوي من الأهمية بما كان في بناء مجتمع أساسه الاستثمار في الإنسان، مجتمع قوامه عقلنة تدبير الشؤون العامة على أساس كسر المثل المتعارف، عاقدين الأمل على جيل تتسع رقعته بالجّد والعمل.

يقال حبل الكذب قصير مما ينطبق على المتملقين، ووجب التخلص منهم بتجاهل شناعة أمر هذا الصنف بالبتر والعزل والتعامل بنوع من الجانبية، أملا في قطيعة تحول دون نقل عدوى وباء كهذا عبر الأجيال بما فيه من الخطورة بما كان، أقول: ما لا يدرك جلّه يترك كلّه، كسب الود لا يأتي على أنامل طبق منفوخ بريح، ولا بُغضَ كبُغضِي لمن يبحث عن مطامعه، لمن يجري وراء مصالحه، لمن يتملق ليتسلق متصرف بنوع من الانتهازية والبرغماتية العالية، لذا لنا أن نعتز بذوي الكفاءة وناذري الطينة، البعيدين بعد السماوات والأرض عن هذا الإيدز الزئبقي. أخيراً، امزجوا ما بين العلم الرصين والأخلاق الحميدة فلا العلم ماض ولا الخلق زائل، فلا تسعد أيها البرغماتي وتأدَّب، إن عملك يتحدث عنك.

ويبقى السؤال المطروح ما المآل للخروج من هذا النفق المظلم؟ كيف سنلملم شتات ما آل إلى السقوط في ظل التراكمات الانحطاطية؟ من يتحمل مسؤولية تفشي كل هذا في ظل ما بات يعرف بتطوير المجتمعات وسير تقدمها والمجهودات المبذولة والتنمية البشرية بألوان طيفها؟ على عاتق من تلقى المسؤولية في تراجع المستوى القيمي للمجتمعات، هل على الشعوب أو من يسهر على تسيير شأنها العام؟ ما الحل ونحن نرى فقدان روح التفاني والتضحية عند كثير من خِيرة فئات مجتمعنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.