شعار قسم مدونات

أناس تقتات بضمائرها!

مدونات - مال نقود رشوة

قرأت قصة لطالب يدرس في كلية الطب، وفي السنة النهائية كان جالسا في قاعة الاختبار، لكنه لم يستطع أن يجيب على الأسئلة لصعوبتها وإهماله، فلم يجد بدا من القيام وتسليم ورقته للمراقب وبداخلها نقودا، فما كان من الدكتور المراقب إلا أن يقدم له ابتسامة عريضة ويشير إليه إشارة الرضى. وتمر الاختبارات، ويتخرج صاحبنا ويصبح طبيبا، وفي أحد الأيام جاءته حالة طارئة، استدعى الأمر أن يكون علاجها بعملية جراحية، لكن دراسته لم تسعفه، والأدهى من ذلك أن المريضة كانت زوجة المراقب الذي أعطاه درجة النجاح.
   
لقد اسودت الدنيا في وجهيهما، وتذكرا فعلتهما حينما مات ضميرهما، وأخذ الواحد منهما يتذكر اللحظة والساعة التي ارتضى لنفسه أن يدفن ضميره مع الموتى، الأول حصل على درجة النجاح وهو لا يستحقها، والثاني تذكر أنه كان يقتات من بيع ضميره، وها هو يتجرع مرارة ما فعل ليكون وفاء الدين الفشل في علاج زوجته.
   
تذكرت هذه القصة، وتذكرت معها أنه حين يموت الضمير، فإن أشياء كثيرة تموت، فتصبح النفس الإنسانية كالأرض القاحلة لا ترى منها إلا سرابا يحسبه الظمآن ماء، فإذا جاءه لم يجده شيئا، فهو مجرد سراب! الذين يقتاتون من بيع ضمائرهم، هم في الحقيقة هياكل جامدة جوفاء، كالكوز مجخيا(١) لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، لأن صاحبها فاقد للقيم والأخلاق، متجرد من الحياة والإنسانية، فالضمير الحي هو الفرق بين الإنسان والجماد، وبين الحيوان والإنسان، وفاقد الضمير المقتات منه حي ميت، لم تحركه نخوة السابقين، ولا أخلاق الآخرين، وليته لما فقد تعاليم دينه تعلم من عنترة حينما قال:

لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
   

كم آسى على أناس أصبح وأمسى وأضحى الضمير عندهم رخيصا، وعملة كاسدة، فقد جعلوه وسيلة يقتاتون بها ليشبعوا رغباتهم، ويخدموا مصالحهم، وأصبح الواحد منهم عبدا لشهواته، لا يردعه دين ولا خلق، ولا عادات ولا عبادات، فهمه الوحيد أن يكون خادما لشهوة نفسه .حجته في ذلك  أوهى من بيت العنكبوت، فهو يبرر ما يفعله  بتغير الزمان، وتبدل الأحوال، وأن السير مع التيار  هو الواجب في وقتنا هذا، فغيره ربح وأصبح من المتخمين، والناس بالبنان إليه يشيرون، فنظرته لضميره نظرة دونية، فهو قد فقد الإحساس، وليته علم أنّ ضميره هو حياته الحقيقية، الذي يقوّمه ويرشده إلى جادة الصواب، ومن دونه يكون ضائعا تائها لا يلوي على شيء في دروب الحياة.

فكيف يرضي الفتي بالذل يحملُهُ *** والذلُ تأنفهُ العبدانُ والخدمُ؟!

  undefined

 

موت الضمير أشكاله متعددة، وصوره كثيرة، فأنت تجد مُراقباً يُعطي الطالب درجة النجاح أو يسمح له بالغش مقابل مال يقبضه، أو موظفا  يقوم بتعطيل معاملات الناس فلا ينجزها حتى يملأ جيبه سحتا وحراما، أو معلماً يغش أولياء أمور طلابه فلا يهتم بأمانة التدريس والعلم حتى يتحصل على درس خصوصي عند أحد هؤلاء الطلاب، أو موظفاً يزوّر شهادات لطلاب لم يدرسوا ولم يتحصلوا عليها بجلوسهم على مقاعد الدرس مقابل حفنة من المال استشرفت نفسه لها، وغيرهم كثير ضجت مجالسنا بذكرهم، وأصبحوا فاكهة المجالس وندرتها.

وإن أكثر ما يصيب النفوس بالعلة، حين يتعدى الأمر أولئك إلى بعض ممن ينسب نفسه إلى المشيخة والدعوة الله تعالى، فقد أصبح البعض منهم يقتات من بيع ضميره، وهمه كما أسلفت، أن يكون مع الزمان والتيار، يدور حيثما دار، وحسنا فعل الإعلام حينما كشفهم، وأظهر للناس عوارهم، وكان ما سطروه أو قالوه دليلا على موت ضمائرهم، قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "وهذه الأمة كذلك إنما هلك أكثرهم بسبب علماء السوء وعلماء الجهل، والعالم وإن كان كبيرا وعظيما قد يغلط، فيغتر بغلطه بعض الناس، وزلة العالم لها خطر عظيم، كما حذر الصحابة وغيرهم من زلة العالم". فهذا في العالم الذي لا يتعمد الخطأ، فكيف بمن باع ضميره؟! جاء عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: ويلكم علماء السوء من أجل دنيا دنية، وشهوة رزية، تفرطون في ملك الجنة، وتنسون هول يوم القيامة.
    
قد يختفي الضمير في فترة من الفترات، فيندم صاحبه ويعود، ويكون صاحبه كصاحب النفس اللوامة، تظل به حتى تعود به إلى جادة الصواب، ولكن  من عنيت  بكتابتي هذه صاحب الضمير الميت، فهل تجد في الميت حياة، وما أنت بمسمع من في القبور!

___________________________________________________________________________________________________

(١) كالكوز مجخيا : أي الكوب المقلوب، الذي لا يثبت الماء فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.