شعار قسم مدونات

اطمئنُّوا.. غزّة انتهت!

مدونات - غزة

هَذا الشريطُ البحري البسيط، المطِل على البحرِ الأبيضِ المتوسط، يحققُ أرقاماً قياسيةً باستمرار، حيثُ يحوي داخلهُ أكبرَ رقمٍ للكثافةِ السكانية على مستوى العالم، فيحوي على صغر مساحته أكثر من مليوني شخص، أكثر من نصفهم دمرت منازلهم ومساكنهم، وتوزعوا عشوائيا على المخيمات المُلقاة على قارعة الطريق، فضلاً عن حصارٍ بري بحري من كل حدبٍ وصوب، فحتى الهواء هناك محاصر، ومنذ اثنى عشرً عاماً وأكثَر، رغم كل المآسي، ورغمَ الموت المستمر الذي أضحى روتيناً مُمِلاً، لا يزال هذا الشريط الحُدودي يُسطرُ كل معاني الصُمود، حيث تحدى كل مفاهيم الجغرافيا وكل معادلات القوة، ولا زال يُعاند الغطرسة والمحاولات البائسة، لتصفية أكبر قضيةٍ نعيشها، قضية فلسطين من البحر إلى النهر..
 
تعرضت غزة خلال عشرةِ سنوات لمجموعةٍ من الحروب المدمرة، قضت على كل البنية التحتية فيها، بل وأجهضت أي محاولةٍ حتى لإعادةِ بناءها، وخلفت كل تلك الحروب الغاشمة شهداءً لا يقرأهم المُشاهد العربي إلا أرقاماً على الشاشة، فضلاَ عن عددٍ قياسي من الجرحى وأصحاب الإعاقات الذين لم يحالفهم الحظ إلا في الظهورِ على شريطِ الأخبارِ غير العاجلة، وليس هذا السيناريو بجديدٍ علينا، عدوانٌ إسرائيلي غاشم ترى خلالهُ المدنيين غارقين بدمائهم، وسطَ صمتٍ مطبق، ومجتمعٍ دولي يتصنعُ العمى، ويغلقُ أذنيهِ عن الانتهاك الصريحِ الذي يطالُ حقوق الإنسان بل ويضربُ بكل اعتبارات الإنسانية عرضَ الحائط، وكأن العصابةَ الإسرائيلية تقول للجميع: "نحن فوق القانون، فوق كل اجتهاداتكم وانتقاداتكم ومؤتمراتكم"، وهو فعلاً كذلك.
 

كل ما راهنَ المتآمرون على ركوع غزة واستسلامها، يعودُ أبناء الأرض ليفاجؤوا الجميع، ويسطروا البُطولات، وإن الكاتب ليخجلُ من التغاضي عن ذكرِ ملحمةِ مسيرات العودة الكُبرى

وحيث نجحَ الموقف العربي في التدهورِ بشكلٍ متسارع خلال تلك السنوات، فمع أول حربٍ على غزة عمَت الاحتجاجات كل العالم، ارتفع آنذاك صوت الرفض والشجب والاستنكار، وحتى على المستوى الرسمي، كانت القممُ والاجتماعات تتوالى، لم تكن تضيف لنا أي جديد، لكنها كانت صوتاً خافتاً يذكرنا أننا وهؤلاء، إخوة في الإنسانية والقومية، وأن من يستشهد هناك، يشبهنا كثيراً، يحمل نفس ملامحنا، يحمل ذات معتقداتنا وأفكارنا، ربما لو لم يكن محاصراً، لرأيته يتسوقُ في عمان، أو يعمل في الرياض، أو مبتعثٌ للدراسةِ في باريس، ربما لو كان في إحدى تلك الأماكن، لكانت قيمتهُ أكبر من ذلك لدينا، لكن ذنبهُ الوحيد أنه ولد على هذه الأرض، الأرض التي تضبح على موت وتمسي على موت، لكننا ما زلنا نُسميها أرض السلام!
 
وما لبث هذا الموقف في التراجع والتدهور، من انخفاضِ وتيرة الاحتجاج، وعدم الالتفات الرسمي لما يحصل، وبمعنى أوضح "الخجل من التعليق على ما يحصل"، فكيف لحكوماتٍ تقتل شعوبها أن تستنكر قتل الفلسطينيين؟ وبأي وجه؟، وتدهورَ ِالموقف العربي إلى ما تحتَ الحضيض، حتى أصبحنا نرى تبريراً عربياً للقاتل والمغتصب، الذي يعرفُ تماماً أنه قاتلٌ مغتصب، فوصلنا إلى المرحلةِ التي ترى فيها إعلامياً عربياً يرتدي اللباسَ العربي، يتكلم من قناةٍ عربية، يبررُ في كلماتٍ سفيهةٍ قتلَ الإسرائيليين للعرب، وينعتُ أبناءَ غزة -العُزل والمحاصرين- بالإرهابيين، ويتغزلُ بالإسرائيلي المدجج لكل أنواع السلاح، وينعتهُ بالمُدافعِ عن نفسه، وهي ذات المرحلة التي أصبح يفتح فيها نقاشٌ عربيٌ خالص، يكون محورهُ هل قصف غزة أمر صحيح أم خاطئ، وهذا التدهورُ الذي جعل أبناء قوميةٍ واحدة، وغالباً أبناء دينٍ واحد، يتناقشون في حرمةِ دمائهِم من عدمها، تؤكد أننا وصلنا إلى إحدى قمتين، فإما أننا وصلنا قمة الجهلِ والسفاهة، أو أننا وصلنا أعلى قممِ الوقاحة!
 
وكل ما راهنَ المتآمرون على ركوع غزة واستسلامها، يعودُ أبناء الأرض ليفاجؤوا الجميع، ويسطروا البُطولات، وإن الكاتب ليخجلُ من التغاضي عن ذكرِ ملحمةِ مسيرات العودة الكُبرى، التي فندت كل الأدلة الزائفة التي تتحدث عن وجودِ أي أحقيةٍ لغير العرب على هذه الأرض، فمن يحاول أن يتجاوز الحدود البائدة وهو أعزل، لا يملُك سوى عقيدةٍ راسِخةٍ بأن هذهِ الأرض أرضَه، هو حتماً صاحِبُ هذه الأرض، ومن يختبئ خلف مئات المدرعات والحواجز، ولا يجرؤ حتى على إخراج رأسهِ من ملجأهِ الذليل، هو مارقٌ على هذه الأرض، هذه الملحمة التي قاتَلَ الأبطال فيها بسلاحِ الكلِمة والهِتاف، وقاتَلَ الجُبناء فيها بَكلِ أنواعِ الأسلِحة، وفي النهاية انتَصرَت الكلِمة.
 
ونحنُ اليوم على أبوابِ ذاتِ السيناريو، ولكن بأعداءٍ أكثر عدداً، انطلاقاً من سلطة فاقدة للشرعية منتهيةِ الصلاحية تحاربُ أبناء القطاعِ المحاصر، في لقمة عيشهم ودخولهم، في الماءِ والكهرباء، مروراً بحصار عربي خانِق، وصولاً إلى القذائف والصواريخ الجبانةِ، الذي يقذفها عدو الإنسانية جمعاء، وذات السكوتِ العالمي المطبق، وعجزٌ عربي تجاوزَ دور التخاذل وأخذ دور التآمر، ولكن اطمئنوا، ووفروا الملايين التي تنفقوها على القذائفِ والصواريخِ من أجل دمارِ ما تبقى-هذا إذا تبقى أي شيء من الأساس- فقد طمأنتكم الأمم المتحدة بتقاريرٍ كثيرة تؤكدُ أن غزّة لن تكون صالحةً للحياة بحلول عام 2020! فاطمئنوا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.