شعار قسم مدونات

الأحلام.. فخ يتسلل إليه العفاريت ليغيروا قناعاتك!

مدونات - فيلم Inception

في نهاية فيلم Inception يخرج الجمهور من أغلب قاعات السينما مفجوعا بسبب استمرار طوطم البطل (خُذْرُوف) في الدوران، وهم لا يدرون هل خاتمة القصة كانت حقيقة أم حُــلما؟ لذلك يُصدرون، بعد كل عرض، صوتا جماعيا من قبيل: أووووو. يبدأ الفيلم بلقطة تُصوِّر حـُـلما ويظنها الجمهور حقيقة، وينتهي الفيلم بلقطة تتأرجح بين الحقيقة والحــلم. وذلك بسبب مؤشر تطبَّع عليه المشاهد وهو: استمرار الطرومبية في الدوران! فما قصة هذا التأرجح؟ وما قصة الفيلم الذي يعبر أغلب المشاهدين أنهم لم يفهموه جيدا؟
 
فكرة الفيلم راديكالية، بهذا عبر الملياردير الياباني (سايتو) في بداية الفيلم، وهي: إمكانية زرع ”فكرةٍ مـا“ في العقل الباطن للضحية حتى يتبناها وتصبح كأنها منه، وشرط ذلك ”الاستنبات الفكري“ أن يكون العقل اللاشعوري ضعيف الحماية (vulnérable)، وهذا الشرط يصير ممكنا فقط عندما يكون الضحية نائما. لكن كيف تُزرع في عقل الإنسان الباطني فكرة مـا وهو نائم؟ الحل عند البطل (كوݒ) هو أن يتم تصميم حلم مشترك بينه وبين الضحية ويعمل من داخل الحلم على إقناعه بضرورة تبني الفكرة التي يريد زرعها في عقله الباطني، وإذا لم يتمكن من زرعها يقوم بإدخاله في حلم ثاني داخل الحلم الأول.. كأنه مصعد ينزل من الحقيقة إلى الأحلام عبر طبقات متدرجة.
  

هناك أحلام المنام وهناك أحلام اليقظة. فكلمة "الحلم" تعني كذلك تلك التصورات غير الواقعية التي يتوق إليها صاحبها بقوة واستشراف

البطل (كوݒ) اخترع هذه التقنية ”الراديكالية“ عندما كان يطور التقنية العادية مع عصابته لسرقة الأفكار! التي تـقوم بانتزاع معلومات مخبأة في العقل الباطني للضحية ثم يقدمونها لخصم الضحية مقابل مبالغ ماليا كبيرة. فعلى عكس انتزاع المعلومة أصبح البطل بإمكانه ”استنبات“ Implantation فكرة جديدة وجعلها قناعة يتبناها الضحية بقوة كأنه هو من أوجدها، وهذه التطورية الراديكالية جربها البطل على زوجته لمرات عديدة حتى اختلطت عليها طبقات الأحلام فانتحرت لكون الواقع أصبح عندها وهْـما تريد الاستيقاظ منه. فكان ذلك سببا في هروبه من العقوبة السجنية، وفي اختراع شيء يميز به بين الواقع والحلم: وهذا الشيء هو الطوطم، فكلما شك في الهوية ”الذات أو الموضوع“ يقوم بتدوير الطرومبية، فإن هي توقفت فالهوية إذن حقيقية، وإن استمر تأرجحها فإن الحلم لا زال مستمرا، والحل للاستيقاظ هو استحداث صدمة قوية كتسديد طلقة بمسدس إلى الرأس.
 
يناقش الفيلم إشكالية فلسفية عميقة، بسببها ظل المخرج والمنتج (كريستوفر نولان) معتكفا على كتابة السيناريو قرابة 10 سنوات، وهي عملية "التشارك في الحلم" والتأثير في العقل الباطني للإنسان بإزاء الحلم. لا أريد الدخول إلى هذا الحقل المليء بالألغام العلمية والإيديولوجية التي لا تفيد كثيرا في فهم رسائل الفيلم المخبأة في "عقله الباطني". لكنني سأتسلل إلى الفيلم عبر "الحلم المشترك" لاستخراج رسالة رئيسية لا تُرى إلا من خلال هذه الزاوية الواقعية لفيلم صنفوه في مجال الخيال العلمي.

  
"الحلم المشترك" في الفيلم هو "مجال" صممه متخصص واحد، وأدخلوا إليه الضحية بإزاء مخدر مخصوص، وقاموا بإحداث تفاعلات شبيهة بالوقائع لكي يتم التفاعل مع الضحية والبحث في عقله الباطن عن معلومات لانتزاعها أو أفكار لزرعها في عقله الباطني.. طبعا سيكون هناك جدلية بين العقلانية والعاطفية داخل مجال الحلم هذا، فالعقلانية تقوم بعملية الاختراق للمعلومات وتقوم العاطفة بعملية التلحيم للفكرة المزروعة. هذه هي الفكرة الرئيسية، فتعالوا نجربها على أحلام من نوع آخر.
  

 
هناك أحلام المنام وهناك أحلام اليقظة. فكلمة "الحلم" تعني كذلك تلك التصورات غير الواقعية التي يتوق إليها صاحبها بقوة واستشراف. فنجد مثلا، البنت تتمنى فتى الأحلام، والولد يحلم بمهنة المستقبل، وجماعة لها أحلام سياسية للوصول إلى الحكم، وأخرى لها حلم مجتمعي إسلامي، أو اشتراكي، أو شيوعي… يسميه خصومها طوباوية أي مدينة الأحلام.
 
هناك كذلك رئيسٌ لحكومة يكرر مرارا بأنه يريد أن يُنصت إلى الشباب! والانصات كما يعرفه الطب النفسي هو ذلك الرابط connexion الذي يجعل المعالِج يدخل مع المعالَج في عملية الثقة التشاركية، وهذا بالضبط ما يريده الحاكم بعملية "الحلم المشترك" لكي ينتزع في عقول الشباب أفكار الاحتجاج والسخط ويستنبت مكانها عقيدة الولاء للحكم الضامن للاستقرار. 
 

نبه العلماء والمصلحون أن "الأحلام" لا تُشتَرك إلا مع العقلاء والمحبين والناصحين. وإذا اختلط عليك مجال الحلم مع واقعية الحقيقة فدليلك للتمييز بينهما هو: "الحركة"

هناك نظام خائف من اجتماع كلمة أعداءه وهو عاجز عن تقسيمهم بأجندات الواقع، فماذا يفعل؟ تقول نظرية "فخ الأحلام" أن عملية الفصل والاستعداء بينهم يجب أن تتم في أحلامهم لكي يتحقق التقسيم في الواقع. هكذا: أنتم لكم أحلام لمستقبل دولة ديمقراطية تقدمية، فكيف تشتركون في عمل نضالي مع أصحاب حلم الخلافة؟ سيتور الجدال حول ماهية الخلافة وماهية التقدمية والديمقراطية.. وهي كلها أحلام مؤجلة في واقع الاستبداد تقوم فقط بتهريب النقاش الحقيقي الآني: كيف تسكتون على "العصابة السارقة" لثروات بلادكم الحقيقية وتصرخون ضد أحلام بعضكم المؤجلة إلى أزمنة المستقبل؟ كيف تقبلون بأغلالكم في كهف العبودية خوفا من أحلام غير حقيقية تشوه طبيعتها نار الاستبداد لكي تعتقدوا في وجودها الحقيقي. أليس هذا كذلك استنبات عبر وسيلة الأحلام؟
   
هناك كذلك عمليات انتزاع المعلومات واستنبات العقائد التي كانت تتم بكثافة، قبل العقد الأخير، في أقبية السجون والمعتقلات وبوسائل همجية عنيفة تجعل النتائج غير مضمونة ولا ناجعة. من ينكر اليوم أن المخابرات الحداثية، التي تخترق التنظيمات السياسية والدينية، تستخرج المعلومات الإرهابية وغير الإرهابية من الداخل كما قامت بزرع عمليات إرهابية وغير إرهابية من داخل تلك التنظيمات. تأملوا في مراجعات بعض الوهابيين، وكيف يتم القبض على المنفذين قبل قيامهم بالعمليات الصبيانية، وتأملوا في أحداث 11 سبتمبر 2001 ألا يمكن أن تُزرع تلك الأفكار بسهولة في عقولٍ غير مُحصنة، بشرط أن يتسللوا إلى أضغاث أحلامهم بوازع الثقة في الخطاب واللباس والهيئة ”الشرعية“ والإيديولوجية؟
 
كل تلك النماذج وغيرها تؤكد أن أحلام اليقظة موجودة بكثرة، وهي حق من حقوق الإنسان ولكنها في نفس الوقت فخ يتسلل إليه العفاريت لكي يغيروا قناعات الناس أو يستنبتوا أفكارا غريبة بقوة العواطف المُجنَّحة حتى يتجدر زرعهم في اللاوعي.
 
لذلك نبه العلماء والمصلحون أن "الأحلام" لا تُشتَرك إلا مع العقلاء والمحبين والناصحين. وإذا اختلط عليك مجال الحلم مع واقعية الحقيقة فدليلك للتمييز بينهما هو: "الحركة"، فمتى توقفْتَ عن الحركة وانتظرْتَ تغييرا.. فأنت تحلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.