شعار قسم مدونات

كيف قاتل علي عزت بيغوفيتش أعداءه؟

مدونات - بيغوفيتش

رُبَّما تتلعثَمُ الكلماتُ في فَمِ الفصيحِ إنْ حاولَ شرحَ ما لا يُحسِنُ التَّعبيرَ عنهُ، ليس عجزًا منهُ وإنّما ثقلُ الأفكار أرهقَ فصاحتَهُ، ورُبَّما تتزاحمُ الكلماتُ في تدوينةٍ فيتركُها قارئُها وهي غارقةٌ في تزاحمِها، ورُبَّما تسقطُ النّقاط وتنثني تجاويفُ الأحرفِ في مُحاولةٍ لأَنْ تقولَ لكاتبها: ظلمتَ، ما هكذا الإنصافُ!
   
علي عزَّتْ بيغوفيتش، هذا الرجلُ الذي عندما بحثتُ في أمرهِ وجمَّعتُ أشتاتَ حياتِه من المصادرِ المُختلفةِ وجدتُ أنَّ المصادرَ بحروفِها وكلماتِها تجاوزتِ الحدَّ الأعلى المسموح بهِ من الكلماتِ، فغيَّرتُ دفَّةَ شراعِ الأحرفِ؛ فتكونَ على غيرِ ما جُعِلتْ لأجلِه ولكنْ لذات المبدأ السَّويِّ الذي عاشَ من أجلهِ هذا العظيمُ.
    
أَنْ يمتلكَ الإنسانُ معلوماتٍ عن فضائلِ الصَّبرِ لَهُوَ أمرٌ عظيمٌ، ولكنْ أَنْ يكونَ صبورًا أيضًا فهذا ما قلَّ نظيرُهُ وعزَّ شبيهُه، علي عزَّت المُفكِّرُ المُتعمِّقُ والمُثقَّفُ الواعي والسِّياسيُّ المُحنَّكُ كان أهلًا ورجلًا لصناعةِ أُمَّةٍ إسلاميَّةٍ منذُ عمرٍ يُقالُ عنه "المراهقة"، هذا عمرُ أسامة بن زيد، وعمرُ عليّ بن أبي طالب حين أسلمَ، وعمرُ الشّباب المُرهَفِ، صاحب العزيمة والقوّة والأنفَة، أولئكَ الشباب الذينَ تغنّى عمرو بن كلثوم بعزّتهم في معلّقتِه، أولئكَ "نُصِرتُ بالشّبابِ".
   

عندما توفّى اللهُ هذا الأُمَّةَ -علي عزّتْ- منعَ مجلسُ الحكم الإداري للبوسنة إعلان الحداد الرسميّ لهذا الرجلِ، فظلَّ غصَّةً في حلق الكافرينَ حتّى بعدما توفّاهُ اللهُ

كتبَ علي عزَّتْ في سجنِه العديدَ من الكتبِ التي كشفَتْ عن عمقِ تفكيرِه وموسوعيَّةِ اطّلاعه منها "الإسلام بين الشرق والغرب" هذا الكتابُ الذي يُعدُّ موسوعةً علميّةً لمن أراد الاستسقاء من الفكر الواعي الذي يرى في الإسلامِ منهجًا للحياةِ، الذي وازنَ في ثنائية الإنسان، وجعلَ كتابَه دستورًا لكلِّ مُغتَرِبٍ مُسلمٍ، يسرحُ به في الآفاقِ المعرفيّة، لا ناقلًا وقارئًا لها فحسب، بل ناقدًا واعيًا يشاركُ برأيِه ويثقُ بما يقولُهُ.
   
وُلِدَ علي عزَّتْ والعالمُ مُتقلّبٌ بين الصّراعات العثمانية والنازية والاشتراكية والكارهين الحاقدين على الإسلام وغيرها لأسرةٍ مُلتزمةٍ بالإسلام سمحَتْ بالحريّة الفكريّة في بيتها، وبحريّة أفرادها في أعمالهم وحياتِهم، فلم يتباطأ علي عزّت منذ السادسة عشر عامًا في نشر الإسلام حيث أسّس جمعيّة "الشبّان المسلمين" وطوّر منها قسمًا باسم "الفتيات المسلمات" نشرَ فيها دينَه الذي تفاعلَ معَهُ وامتزجَ في أحكامهِ، وتخصّص بعدها في القانونِ ولم يقفْ قبل أنْ يصلَ إلى مرحلة الدكتوراه، وحصل على الشهادة العليا في الاقتصاد، وكان يقرأُ ويكتبُ ويتكلّمُ بالعديد من اللغات، فكان مُثقَّفًا واعيًا، بدأ في ريعان شبابِه بمُلاحظةِ العالم الإسلاميّ في الغرب، وبمُتابعة الجماعات الإسلامية في جميع دول العالم.
 
وشأنُ العظماءِ أَنْ تعاني لأجلِ ما تعتنقُ من أفكارٍ قيّمةٍ على يَدِ الطُّغاةِ الذين ما زالوا يخشونَ قبسَ النور الذي اهتدى بهِ سيّدنا موسى -عليه السلام- يومَ استلامه الرسالةَ والنبوّةَ، ويخشونَ غارَ حراء وغارَ ثور اللذَينِ احتضنا ولادةَ أعظم منهجٍ في التاريخِ، فهذا العظيم الذي عندما سُئلَ عن حياتِه وحقّ لمثلِه أن يُسألَ ويتكلّمَ عنها قالَ: دعْ عنكَ هذا، نحنُ أمامَ أُمَّةٍ تخلَّفَتْ، دعونا نعملْ لنهضتِها" فاعتُقِلَ عدَّةَ مَرَّاتٍ، وذاقَ الحرمانَ والابتعادَ عن الأهلِ، ومعَ ذلكَ كان يؤلِّفُ الكتبَ في سجنهِ ليصارعَ الوقتَ حتَّى لا يدركَهُ تخلُّفُ الأمَّةِ فيكون من السَّبَّاقينَ لنهضتِها، ظلَّ وفيًّا لفكرتِه رغمَ طراوةِ الإغراءاتِ ويَباسِ العيشِ وقُرْبِ المنيَّةِ وابتعادِ المُنَى، فأسَّسَ وقاد أكبر حزبٍ سياسيّ في تاريخِ البوسنة، وكان أوّل حاكمٍ مسلمٍ لها وأخرجها من الحكم الشيوعيّ اليوغسلافيّ مُستغلًّا سقوطَ الشيوعيّة في روسيا والسّماح -شكلًا- بتعدّد الحزبيّات السياسية التي لم تتوقَّع وقتها أنّ مثلَه سينتصرُ عليهمْ.
  

 بيغوفيتش  (مواقع التواصل)
 بيغوفيتش  (مواقع التواصل)

 

عندما توفّى اللهُ هذا الأُمَّةَ -علي عزّتْ- منعَ مجلسُ الحكم الإداري للبوسنة إعلان الحداد الرسميّ لهذا الرجلِ، فظلَّ غصَّةً في حلق الكافرينَ حتّى بعدما توفّاهُ اللهُ، ورحلَ عنهم. هذا الرجلُ الذي لم تقدرِ الأربعونَ صفحةً في مُقدِّمة "عبد الوهاب مسيري" لكتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" على إنصافِ فكره وحياته وجهاده، وإنّني لأستغربُ أنّنا لا نسمعُ بهِ أبدًا، ولا يتردّد اسمُهُ بيننا، معَ أنّه أحدُ صنَّاعِ الحضارةِ الإسلاميّة في الغرب، وأحدُ الضاربينَ بجذر الإسلامِ رغم نيوب الاشتراكيّة والنازيّة قبلها، وأحدُ المُقاتلينَ المجاهدينَ على الرغم من أنّه جاوزَ السبعينَ عامًا، وخلّفَ لنا في مؤلّفاتِه علمًا هائلًا ينوء عن استيعابه الفرد متوسّط الثقافةِ، وإنّني لأستغربُ حينَ أراهُ زعيمًا مُجاهدًا يتحدّثُ بسلاسةٍ واطّلاعٍ عن نظريّة داروين ولا يكتفي بهذا بل يضعُ رأيَه وتفنيدَه، ويتكلّم عن المسرح والفنّ ويربطُهما بوجود الله تعالى، فكم بطنٍ أنجبتْ مثلَ هذهِ الدهشةِ؟ وكم سجنٍ أحاطَ وحفَّ شخصًا بهذه العظَمَةِ؟ 
 
هذا الرجلُ الذي ظلّ صَبورًا حينَما قُتِلَ شعبُه على عينِهِ وما يدري ما يصنعُ، وظلّ متماسكًا أمام شلّالاتِ الدماءِ التي أَهرقتْها صربيا وكرواتيا في سبيل إخضاعِهِ وإسقاط رايةِ الإسلام لحقدها عليه، ظلَّ يزرعُ الفسيلةَ والقيامةُ تقومُ، فظلَّ البذرُ موجودًا على مدى التاريخِ، فماتَ جسدًا، وأبقاهُ اللهُ فكرةً وقدوةً لكلّ مَنْ يريدُ العزّ لإسلامِه، والبناءَ وَفقَ نظمه، امتلكَ القلمَ والوفاءَ لمُعتقدِهِ وبهما قاتلَ.
 
ولولا أنَّ مصادري من دونِ ربطها ببعضِها بعضًا تجاوزتِ العدد المسموحَ به من الكلماتِ لتكلّمتُ بما يشرحُ الصدرَ، ويؤنِسُ القلبَ، ويُدمعُ العينَ، ولكنَّني بعدما رأيتُ العُجابَ من أمره، غيّرتُ وبدّلتُ فلم أُظهرْ سوى بعض اللّقطات السريعةِ من حياته، ويكفي أَنْ أذكُرَ هذه القصّة البسيطة التي هي درسٌ للشعوبِ الراضيةِ بالمذلّةِ والخنوعِ، فمرَّةً جاءَ علي عزّتْ متأخِّرًا إلى صلاةِ الجمُعةِ وكانَ من المُقبلِينَ عليها باكرًا عادةً، فأزاحَ الشعب له ومهّد الطريقَ احترامًا ليصلَ إلى الصفِّ الأوّلِ فمشى والتفتَ وقالَ: هكذا تصنعونَ طواغيتكمْ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.