شعار قسم مدونات

مَدِينةٌ لنفسي باعتذار!

مدونات - امرأة ألم حزينة حزن

أمْ كأنَّ العُمرَ إذا جرى سريعًا؛ يجعلُ صاحبهُ يتحسَّرُ على ما فاتَ أضعافا، ويتقطَّعُ قلبُه ويشردَ ذِهنُهُ حتى يفقدَ شعوره بالمكانِ من حولِه، أم أنّه العُمْق الذي يحوّلُ صاحبَه إلى كائن هشِّ، تحركهُ أغنيةٌ حزينة، وتُطفئ شغفَه حارةٌ قديمة، وتسحقهُ ذكرياتٌ دفينة. أم لعلّهُ اليأس الذي يرمي به في حكاياتٍ يتسلّلُ إليها فَيتخيّل نفسَه بطلها، فيستهويهِ الدّورُ وتتحول التفاصيلُ إلى كائناتٍ ضخمة تفتّتُ أضلاعَهُ كلّما حاولَ التحرّكَ باتّجاهها، أو الاقترابِ منها.

  

أنظرُ إليها بصمتٍ حزين؛ هي في العقْد الرابع من عُمرها، بتجاعيدَ خفيفةٍ على وجهها، مرسومةٍ بدقةٍ، وكأنّها تتآمر هي الأخرى مع الدنيا ضدّها، لتبدو أكبرَ حينًا وأكثرَ وسامةً حينًا آخر، بابتسامتها اللّطيفة التي تُخبّئ مئاتَ القصص التي لا تُحكى، كانتْ تتنّهد ومعَ كلّ آهٍ طويلةٍ تخرجُ منها، تُحسُّ بمدى الألم الذي يعتصرُ داخلَها، حسراتٍ أم زفراتٍ أم سَكَرات كانتْ تلكَ الآه، لا أحدَ يعلمُ ذلكَ غيرها، لفرطِ هَشاشتها وفقدانها لثقتها بنفسها، لم تعُدْ تعلم من أينَ تبدأُ حكايتها أو كيفَ تُنهيها، يكفي أنّها تتذكّرُ زوجها الذي أدارَ ظهره إليها بسببِ إشاعةٍ من صديق، وَثِقَ بهِ وصدّقَهْ، ليتركهَا بسُمعةٍ مُلطّخةٍ وحُلُمٍ كبيرٍ لم يكتملْ بعد!

   

كان لومُها الدائمُ لنفسِها سببًا في إصابتها بمرض السكريّ، مَن ينظرُ لوجهها المليءِ بالهموم التي تركت نُدوبًا، يظنُّ أنّها أتمّت عامَها السّتين. أمّا الحزن فقد تحوّل سَوادًا ارتسمَ تحتَ عينيْها ظلامًا، كم كانَ يكفيها من الألمِ أكثر لتثبتَ براءتها، هي نادمةٌ الآن لأنّها قصّرت في حقّ نفسِها، لم يكُن لِزامًا عليها أن تتأثر بمَا فعلهُ بها، تقولُ مواسيةً نفسَها: "لو أنّي فتحتُ قلبي لحبٍ جديد لَكانَ أفضل، ثمَّ تُطرِقُ رأسها ألمًا، وتُكمِل: "ولكن أين وكيف! هو لم يترُكْ أحدًا إلاّ وحدّثهُ عنّي، حتى صديقاتي تخلّيْنَ عني وخِفْن من أنْ أسرِق أزواجهنّ".

    

خدعتُ نفسي وأوهمتُها أنّ الأبوابَ المؤصدة الملونة التي أحبّها، ستُفتح لي مراتٍ ومرات، ولكنّ، لا الأبوابُ فُتِحتْ، ولا أنا شُفيتُ من حبّها الكبير
خدعتُ نفسي وأوهمتُها أنّ الأبوابَ المؤصدة الملونة التي أحبّها، ستُفتح لي مراتٍ ومرات، ولكنّ، لا الأبوابُ فُتِحتْ، ولا أنا شُفيتُ من حبّها الكبير
    

ما أشدَّ ألمَها، لو أنَّ الدموع تُحفر على خَدَيّ صاحبها لاستحالتْ دموعُها نهريّْ دمٍّ لا دمع، لا أعلمُ كيفَ يمكنُ لشخصٍ في مكانِها أن يستمر بكلّ هذا الإحباطِ والحزن، هي كما تقول، مدينةٌ لنفسها باعتذار، تقفُ على عتبةِ "ألاَ ليْت"، وتتأرجحُ بين "لو" و"هيْت". أمّا أنا فقد حفظتُ عبارتها تلك لأكتبَها هنا، لأنّني أنا الأخرى، مدينةٌ لنفسي باعتذار، فمَا كنتُه بالأمسِ لا يشبهُ ما أنا عليهِ الآن، ورطَتِي الوحيدة أنّني لم أُعِرْ نفسي كفايَتها من الاهتمام، ولم أحاولْ تنظيفَ عَفَن مَن آذوها حتى تراكمَ في زواياها، فَسّدَّ معَهُ منافذَ روحي، ذنبي أنّني لم أحتضنْها بشدة كاحتضاني لصديقٍ قديمٍ أو قريبٍ حبيب، بل جعلتُها تواجهُ غربتَها بمفردها، كذبتُ عليها مرارًا وقلتُ بأنّ الفرص لا تُمنَح لمَن لا يستحقُها، لا تُمنَحُ لمَن غَدَر، وخان، ولكنّ عدتُ ومنحتُها لأناسٍ أثبتُوا أنّهم لا يستحقونها فعلا.

 

خدعتُ نفسي وأوهمتُها أنّ الأبوابَ المؤصدة الملونة التي أحبّها، ستُفتح لي مراتٍ ومرات، ولكنّ، لا الأبوابُ فُتِحتْ، ولا أنا شُفيتُ من حبّها الكبير. بل أغرقتُها ببحرِ "لماذا" الذي لا جوابَ له، ودفعتُها على تحمُّل نتائج هذا السؤال حتى اندثرتْ، كفراشةٍ أمسِكُها بطرفِ إصبعي وبدلا من أن أطلق سراحها، أسحقُها غيرَ أبهةٍ أو نادمة.

  

مدينةٌ لنفسي باعتذار، لأنّي لم أواجه مَن رحلوا بجُعبةِ الأسئلةِ الكثيرة التي بحوزتي، وأجلّتها ليوم ألتقيهم، فلا الأيام جاءتْ ولا الأسئلة تحرّرت من عُقَدها.

  

نعم، كلّنا مَدينونَ لأنفسنا باعتذار، عن كلّ لحظةٍ في الحياة أخذناها على محْمَل الجدّ، وإذْ بالحياةِ كلّها لا تستحقُ أن تُؤخذ على هذا المَحْمل، مدينون لها لأنّها ورطّتنا في انتظارٍ طويل، وبدلا من أن نهرُب، اكتفيْنا بالتّحديقِ لكلّ ما ضاع منّا بحزن، كانَ علينا حينها ألاّ نبحثَ عن إجابة، بل نكتفي بالرضى والسّلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.