شعار قسم مدونات

كاريزما الزمن الجميل.. جيل السّبعينيّات نموذجاً

مدونات - مصر قديما زمان

في اللحظة التي تنتابك فيها مشاعر المخضرم الذي عايش جيلين، فأنت قطعاً عملة نادرة توزعت بين ألفيّـــــتين، تتقاطع في نظرتها تلك مع الكثيرين، قبل أن يسحق الاقتصاد قناعات الناس منتزعاً كينونتها من البساطة صوب التعقيد في شتى ميادين الحياة، آنذاك أوجبت روابط القرابة التواصل الورقي عبر الرسائل قبل شيوع الهاتف الأرضي، وطاب إيقاع الحياة بالرضا بالواقع وتجاهل الكماليات، وشيوع البركة على الرغم من ندرة الموجودات، أما الشتاء فكان أغزر وأكثر بركة والعشب أطول وأشد اخضراراً، والنساء أقل مهوراً وظهوراً، ومقاييس السفور غير التي نعرفها الآن، واستماعك للأذان طيلة النهار. 

  
حينها كان التلفاز ينام مبكراً قبيل انتصاف الليل، ولئن رغبت في مشاهدة الشام فعليك بإعادة توجيه شبكة الالتقاط، مستمداً التيار من البطارية لا من أعمدة الكهرباء، وحتماً ستغلق تلفازك لثلاثة أيام إن صادف عزاء في الجوار، آنذاك كان خطيب الجمعة مفوهاً دون أوراق، ووسائل النقل حافلات أصابهن اليتم في هوامش الجغرافيا وويلك إن أفلتن إحداهن منك فذهابهن صباحا وإيابهن عصراً، وإن اكتحلت عيناك بمرأى جارك، فليس لك أن تقصّر في أمرين: دفع أجرته والتطوع بحمل أكياسه.

  
كم كنا محظوظين بركوب السيارة الألمانية 190 العاملة على كل الخطوط، والحافلات الإيرانية البيضاء بخطوطهن الحمر، وعند الوصول للدوائر الحكومية لا تخطئ أسماعنا قرع طابعة الأوليف Olive الإيطالية المنقطعة النظير.

 

في الماضي راجت سوق بائعي الحبوب والبذور عنواناً للمرحلة، وسادت سلطة الأب المطلقة، وكان الهاتف مؤمّماً للوالدين ونفوذ الجدة، واتسعت دوائر العيب والأخوّة

في الزمن الشاعري ذاك حفظنا من الشعر: موطني لإبراهيم طوقان وعمان في القلب للشاعر اللبناني سعيد عقل، وتنوعت مشاهداتنا بين المجلة الرياضية ظهيرة الجمعة، ودروس الشعراوي عصر اً، وابتهالات النقشبندي قبيل الاستماع لمدفع الإفطار الرمضاني، ومعين الثقافة مساءً في برنامج المرحوم رافع شاهين فكّر واربح، والعلم للجميع لكامل الدباغ، وإذاعة نداء الإسلام من مكة المكرمة، وهنا لندن بأصواتها العبقرية من السودان أيوب صدّيق ومن فلسطين ماجد سرحان، وفي السهر ات نذرف العبرات إذ نتابع الرسالة أو عمر المختار. وغداً نلتقي ومسك الختام مع حديث الروح لعبد الحميد متولي.

  
كانت الطرق مسجلة باسم المعلم ومروره يعني لطلبته حظراً شاملاً للتجوال، وإبريق الشاي سيد الضيافة بلا منازع، وأصناف الدخان تتنوع بين: جولد ستار وريم وكمال، وعلبة النيدو أول رفيق للأطفال بعلكتهم الملوّنة ومصّاصهم الحلو، يلعبون بالكرات الزجاجية، ويتبارون في تكسير نواة المشمش، ويلوّحون للطائرات متمنّين رؤية القدس، ويعبثون بكسّار الزبّادي في طريقهم للصيد بأفخاخ العصافير، يقومون بنقل مراسلات النساء، فرحين بالإطراء المبدوء بكلمة شاطر، ذاهبين للجارات ينظرون أيهن أزكى طعاماً، وأيهن تحوز سمنة الغزالين، يرمقون دفتر الحسابات يتموضع خلف ميزان البقالة اليدوي، لا يترددون في الشراء بأدنى الفئات النقدية، فهي تسمح بالكثير، وكل عائلة تقنع نفسها بعشرة إلى عشرين فرداً، وطقوس الضيافة تحتم طرق الأبواب لكن ليس قبل نحنحة الصوت إيذاناً باستكمال الاستئذان. 

  
في الماضي راجت سوق بائعي الحبوب والبذور عنواناً للمرحلة، وسادت سلطة الأب المطلقة، وكان الهاتف مؤمّماً للوالدين ونفوذ الجدة، واتسعت دوائر العيب والأخوّة؛ فكان ارتداء الشورت عيباً واعتبر الجار أخاً، وإمام المسجد مطاعاً، وللناس قلب واحد يتسابقون لتحفيظ أولادهم جزء عمّ وجداول الضرب، في زمن قلّت فيه الأمراض وأتى ليله مبكراً وكذا رحل، ولباس التقوى لباسهم بقلوب معلّقة بالأمومة، شعارها الجوهر قبل المظهر. وطول العطلة الصيفية يوفر للمزارع أيدي عاملة مجانية أو شبه مجانية.

   

في ذاكرتنا.. تعددت البرامج الكرتونية من افتح يا سمسم إلى المناهل وحكايات لا تنسى وجزيرة الكنز، وعدنان وليناا وجراندايزر وسنان وسندباد وكابتن ماجد 
في ذاكرتنا.. تعددت البرامج الكرتونية من افتح يا سمسم إلى المناهل وحكايات لا تنسى وجزيرة الكنز، وعدنان وليناا وجراندايزر وسنان وسندباد وكابتن ماجد 
  

وفي البيوت تزهو مدفأة الحطب، لتجتمع حولها العائلة النواة والممتدة، ومن المحال أن تفرّط النساء في اقتناء البريموس الأخرس المتعدد الاستعمالات، أو امتلاك اللوازم كالفانوس والغربال وورحى الطاحونة ولجن الاستحمام ومرتبانات المطبخ ومكنسة القش. أما المأكل والمشرب فيمر عبر بوابة الطحين، في قصة خبر الشراك رمز الاكتفاء الذاتي، وفي الصدارة البيض البلدي ليسبق صيدلية البيت الموزعة بين النعناع والبابونج واليانسون والقيسوم، ورائحة البندورة البلدية تفوح من حوش الدار، ودالية العنب تحتل زاوية البيت، والتين والزيتون لهما أجلّ الحضور، ونصيب المذمة وافر لامرأة أخفقت في تدبيرها المنزلي بدءاً بخبز الصاج، وانتهاء بنثر الحبوب للدجاج، أو خلا مطبخها من ضروريات العيش، فلا بديل للعدس أو للسكر الفضي، وبواعث الإضاءة بين فانوس أو لوكس أو شانبر، وإكراماً لزوجها فإنه يحوز نصيب الأسد من الطعام وبالأخص القطعة الأكثر تميّزاً من الدجاج وصغار الحمام الزغاليل، أما الماء فلا تعقيم ولا فلاتر، وأينما تذهب تجده سبيلاً في الجرار الفخارية، وأما مثلّجات الصغار فهي كعكة بسكوت تغطيها كريما بيضاء، وتتصدر الواجهة حلويات الشام ما بين: ناشد وشعر البنات وكعكبان، وإفطار الصباح لا يخلو من جبنة (ريغال بيكون)، ليعمّ التبادل التجاري بين الجيران حباً وكرماً.

  
وفي المدارس فرضت أقلام الحبر الفرنسية ماركة Bic Cristal نفوذها، وكان لزاماً على المراهق أن يستعين بماكنة الحلاقة المعتادة لحلاقة الشعر، وبشفرات الحلاقة ماركة التمساح للذقن، والتفاخر بالحذاء الصيني ذو الرباط الأبيض، حينها كان المصروف في حدوده العليا يصل لخمسة قروش، ولم يسمع الطلبة بالدروس الخصوصية، لتطبع لهم أسئلة نهاية العام بماكنة استنساخ تراثية تدعى سحب ستانلس، وتوثيق جداولهم بأقلام الجداول الخاصة Uni ball، ويسارع طلبتهم بحل الواجبات على الأرض قبل الغروب أو تحت ضوء السراج، ويتنافسون في ربط كتبهم بالقطع المطاطية بديلاً عن الحقائب المدرسية، وحصة الرسم تبدأ من رسم المنظر الطبيعي وتنتهي بعلبة الصمغ لإلصاق الصور، والطباشير الملونة لمعلم العربية تجذب الأنظار، وتقريع المعلم لطلبته لم نسيتم أطلس العالم لمصطفى الدّباغ، قبّحكم الله من عاجزين حتى عن صناعة نكّاشة بابور الكاز، وفي طريق العودة من المدرسة لعدة كيلومترات لا يشعرون بالمسافة من فرحة العودة، ويستعجلون الخطى للحاق بلعبة الطائرة الورقية، لكن ليس قبل نسخ واجب العربية قصيدة فلسطين داري لسليمان العيسى، والفرحة عارمة بالعودة بشرّشور من الحلو الملوّن، والتباهي بالأحذية البلاستيكية الخفيفة، والتي تحيلها الأم لوسيلة من وسائل التربية، وفي الطريق يمرون بالبقالة لشراء ما نسوه، فيستوقفهم بقّالها ريثما ينسخ مثلهم، ولكن بتكليف من فقراء القرية على دفتر مديونياتهم.

  
تعددت البرامج الكرتونية من افتح يا سمسم إلى المناهل وحكايات لا تنسى وجزيرة الكنز، وعدنان ولينا وجراندايزر وسنان وسندباد وكابتن ماجد، وللألعاب من الذاكرة نصيب فعلى رأسها لعبة كاميرا الحجيج، وسبع حجرات وعيدان الكبريت والصيصان الملوّنة، وعرباية البيليه شريكة الدّراجة الهوائية في احتلال الأرصفة، وفي الساحات العامة كانت الغلبة للعبة السيسو، وفي حصة الرياضة المخصصة لكرة القدم، يتكون مرمى الفريقين من أربعة حجارة تتناصف بين طرفين، وانتقاء الحارس ذي البنية الضخمة وتتعالى ضحكات الصغار، فقولوا معي: ألا ليت الشباب يعود يوماً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.