شعار قسم مدونات

حليف أردوغان بالانتخابات.. من هو "دولت باهجلي"؟

مدونات - دولت باهجلي

نستطيع أن نقول أن تركيا خاضت أهم وأشرس معركة انتخابية في تاريخها الأحد الماضي 24 يونيو/حزيران، ذلك أنّ هذه الانتخابات ليس كأي انتخابات سابقة، فهي انتخابات تشريعية ورئاسية في الوقت ذاته، عدا أنها الفاصل بين الحكم بالنظام البرلماني والنظام الرئاسي الذي بدأ عهده منذ فجر 25 يونيو/حزيران 2018.

 
كلنا تابعنا الانتخابات لحظة بلحظة وكنا نترقب على وجل صدور النتائج النهائية التي كشفت عن مستقبل تركيا الذي يختلف 180 درجة بين نظرة المعارضة والحزب الحاكم، فاز الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وفاز تحالف الشعب الذي يضم حزبه "العدالة والتنمية" (الحاكم) وحزب الحركة القومية (قومي معارض) برئاسة دولت باهجلي الذي تحالف مع أردوغان منذ استفتاء 16 نيسان/أبريل العام الماضي، والذي من خلاله تم إقرار تغيير نظام الحكم بتركيا من برلماني إلى رئاسي.

  
لا أكون مبالغا في القول إن قلت أنّ الكفة التي رجحت فوز أردوغان وتحالف الشعب هو إعلان الزعيم القومي دولت باهجلي تحالفه مع أردوغان ضد أحزاب المعارضة الأخرى، مصرّحًا أن موقفه هذا المغاير لمواقفه السابقة من أردوغان والعدالة والتنمية؛ ينبع من حس وطني ليس إلا. باهجلي دفع فاتورة وقوفه بجانب أردوغان اعتبارًا من المرحلة التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة، لقد انقسم حزبه بين مؤيد ومعارضة لهذه السياسة الجديدة، حتى أن ميرال أكشنار التي وصفها إعلامنا العربي بالمرأة الحديدية وطبل وزمر لها كانت عبارة عن عضو في حزب الحركة القومية، وعقب محاولة الانقلاب تم طردها لتعلن عن تشكيل حزب جديد أواخر 2017 تحت اسم الحزب الجيد أو الصالح.

  

عندما نسلط الضوء على حزب الحركة القومية نرى أنه صاحب أيديولوجية وطنية بامتياز وليست مغشوشة أو معسولة بالكلام الفارغ كتلك النماذج اللاوطنية في الحقيقة التي نراها في الكثير من أنظمة بلادنا

دولت باهجلي -لمن لا يعرفه- معروف بمواقفه الوطنية المفاجئة بل وتوصف باللغز في بعض الأحيان كون حزبه يعتبر من المعارضة الرافضة لسياسة أردوغان، لكن فجأة تراه يتخلى عن كل مصالحه ومصالح حزبه عندما تتعلق القضية بالوطن تركيا. باهجلي كان قد تحالف مع حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) إبان الانتخابات الرئاسية عام 2014 ورشحا أكمل الدين إحسان أوغلو مقابل المرشح الرئاسي آنذاك أردوغان، إلا أنّ باهجلي نفسه عقب محاولة الانقلاب نراه قد اصطف بشكل أقرب بجانب أردوغان كونه رأى الخطر المحدق من الحدود ومن التدخلات الخارجية، ليعلن بشكل صارم أمام جمهور المعارضة عن موقفه المؤيد لنقل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وأعلن تأييده لـ نعم في التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها يوم 16 نيسان العام الماضي.

  
باهجلي كشخص زعيم له موقف لا يعرفه إلا الذي يهتم بالشأن التركي وتاريخ السياسة فيه، في منتصف عام 2002 كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء التركي آنذاك بولنت أجاويد، ضمن حكومة ائتلافية، الأخير تعرض لمرض أبعده عن منصبه وتعنت في تقديم استقالته، ليضطر نواب من حزبه إلى تقديم استقالتهم للضغط على أجاويد كي يقدم استقالته أو يدعو لانتخابات مبكرة، إلا أن الأخير لم يفعل شيئًا وفضل مصلحته الشخصية، وهنا يبرز دور باهجلي نائب رئيس الوزراء حينها، حيث أعلن عن استقالته بعدما رأى الفوضى قد سرت في البلد وضعفت الحكومة واستقال عدد من وزرائها، فقطع الجدل ودعا لانتخابات مبكرة للخروج من الضعف الذي خيم على الحكومة، هذه الانتخابات المبكرة التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 نجح فيها العدالة والتنمية نجاحا ساحقا كأول انتخابات يجريها في تاريخه الحزبي، حيث حصد 363 مقعدًا برلمانيا من أصل 550 ليستطيع بذلك تشكيل الحكومة منفردًا بكل أريحية.

  
نلاحظ أن بسبب هذه الانتخابات خسر باهجلي منصبه كنائب رئيس الوزراء، كما خسر حزبه الحركة القومية تجاوز عتبة دخول البرلمان بسب القوة التي حظي بها العدالة والتنمية، إلا أنّ هذا كله لم يكن يعني شيئًا للزعيم باهجلي كون المسألة قد تعلقت باستقرار الوطن تركيا. في هذه الانتخابات الأخيرة والتي كما أسلفنا كانت عبارة عن عصفورين بحجر واحد، فهي انتخابات رئاسية وبرلمانية في الوقت ذاته؛ نرى هنا أيضًا باهجلي مفضلا مصلحة الوطن على مصلحته ومصلحة حزبه، مع أنه خسر الكثير مقابل مواقفه هذه، حتى أن شركات استطلاعات الرأي التركية أجمعت تقريبا على أن الحركة القومية لن يتمكن من تجاوز عتبة دخول البرلمان.

  

 دولت باهجلي (رويترز)
 دولت باهجلي (رويترز)

وهنا يرد باهجلي خلال مقابلة تلفزيونية يقول فيها كلمات استقبلها مناصروه بفخر واعتزاز، يقول "أخاطب شركات استطلاع الرأي التي تقول أن حزبنا لن يدخل البرلمان، ما هو ذنبنا؟ هل لأننا نحب تركيا، نحب الوطن، نحب تركيا جميلة، بشعب قوي متآخ، نحن نتحدث عن إخوة لمدة ألف عام، يقولون أنّ حزب الحركة القومية سيبقى خلف عتبة البرلمان، 3.5 أو 5 أو 4 بالمئة، بينما نراهم يطبلون ويفعلون ما بوسعهم لإبراز حزب يعمل مع منظمة بي كا كا الإرهابية ضد تركيا والوطن على أنه سيدخل البرلمان، حزب الشعوب الديمقراطي"، وفي النهاية كسر الحركة القومية كل التوقعات ونجح بدخول البرلمان بعدما حاز على 11 بالمئة من نسب التصويت بالانتخابات البرلمانية.

 

عقب نتائج الانتخابات التركية لم يتردد باهجلي بإقالة نائبه سفر إيجان من منصبه عقب تصريحات من شأنها أن تصنع الفرقة وتقضي على هذال التحالف الوطني

عندما نسلط الضوء على حزب الحركة القومية نرى أنه صاحب أيديولوجية وطنية بامتياز وليست مغشوشة أو معسولة بالكلام الفارغ كتلك النماذج اللاوطنية في الحقيقة التي نراها في الكثير من أنظمة بلادنا العربية مع الأسف. يقوم حزب الحركة القومية على مفهوم عشق الوطن، ذلك العشق العذري الذي تتلاشى عنده المصالح الوحشية، وأشعر بالأسف أن بعض العرب المقيمين في تركيا لا يذكرون الحركة القومية إلا على أنه عنصري وعرقي، بينما لا يلتفتون إلى الحس الوطني الحقيقي الذي يتمتع به هذا الحزب، وهذا بنظري نموذج يمكن أن نتعلم منه الكثير في تعاملنا مع أوطاننا.

  
العنصرية والعرقية نتنة بلا شك ولكن الوطنية هي صفة تسمو بالإنسان كي يحقق غاية إعمار الأرض لا إفسادها، إحياء الناس لا قتلها، إظهار النقاط المشتركة والعمل عليها مع الآخرين، وليس التركيز على نقاط التفرقة والاختلاف وجعلها عائقًا لأن هذا من شانه أن يؤخر سير القطار إلى ما لا نهاية.

  
إن أكبر دليل على أن باهجلي وحزبه "الحركة القومية" لم يكونا يضمران مصلحة شخصية من وراء التحالف مع أردوغان والعدالة والتنمية، هو موقف باهجلي عقب نتائج الانتخابات؛ فلم يتردد الأخير بإقالة نائبه سفر إيجان من منصبه عقب تصريحات من شأنها أن تصنع الفرقة وتقضي على هذال التحالف الوطني، حيث قال إيجان بأنّ "الكلمة النافذة في البرلمان ستكون لنا بعد الآن، و"الحركة القومية" هو من أنقذ أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في الانتخابات". سرعان ما تمت إقالته من قبل باهجلي رئيس الحزب، كون الأخير يؤمن أنّ هذه تصريحات ليست خالصة لوجه الله، وأن من ورائها صنع التفرقة داخل أرضية التحالف الوليد.

  
ما يهمني من هذا الدرس الانتخابي في تركيا التي تدهشنا في كل انتخاب يقوم به الشعب التركي، هو أن نطمس نظرية المؤامرة التي تترهل فوق ظهورنا وتعيقنا عن الحركة، أن نعمل بإخلاص وننظر للأمام لا الخلف، أن نقضي على الجهل الذي يمنعنا عن الكثير الكثير في تحقيق تقدم أوطاننا وبلادنا، أن نذوق طعم الوطنية الحقيقية المعتدلة التي لا تقوم على عنصرية بل ترتكز على الأصالة والحداثة تستقي من ثقافتها وتواكب حاضرها، وكلي إيمان أننا حينما نعمل سوف نرى النتائج ولا نجاح مع القنوط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.