شعار قسم مدونات

غارقٌ في قاع اكتئابٍ لا قاع له!

blogs الاكتئاب

اليوم هو الواحد والعشرون من شهرِ أيلول، الساعة التاسعة إلا ربعٍ، لا شيء مميزٌ في هذا اليوم ولم تحصل معجزةٌ يتغير فيها أيُّ شيءٍ، كالعادةِ أتلقَّى بعض التحياتِ وأبادلها، يبتسمونَ فأبتسم، لا أحد يستطيع إدراكَ كُنه ما تشعر به لأنّك تملكُ وجهاً مرناً تختبئ خلفه. الفارق عزيزي بين الأمام والوراء هو إدراكك له، قيل قديماً أنتَ حيٌّ إذا ما زلتَ تلحظُ تغيّر الأشياء من حولك، لا أشعر بتغيرِ شيءٍ أبداً، كأنّ سخطاً إلهيّاً أصابَ الكونَ فـسكنَ تماماً وحين نظر الإله رأني أكثرَ الناسِ ذنوباً فقرر أن يُعاقبني فأعيشُ في كونٍ لا يتغير فيه شيئاً، كلّ ما حولي يبعث على الضجرِ والقلق، متأكدٌ أنّي لستُ ميتاً فما زلت أحتفظ بمشهد مرجيحة الحديقة أعلى وأسفل ثمّ أعلى وأسفل، ما زلتُ أحتفظ بذكرياتي وهذا ما يجعلني متأكداً أنَّ هناك خطباً ما.

 

لكنّي لست حيّاً أيضاً يا عزيزي.. اليوم لا أدركُ الفرق في أنْ تكون بالأعلى أو الأسفل، أن تكون بالأمام أو الوراء، فَقدتُ توتّري بمقارنة درجات لون زهرة الياسمين في حديقة أمّي، كلّها استحالت زهوراً فقط، زهوراً رماديةً.. يا عزيزي ما أقسى أن تختزلَ الجمال باسمٍ وحيدٍ رمادي. تعبتُ من المشي في الشارعِ وتحسُّس كاهلي، من النوم وتحسُّس كاهلي، من الأكل وتحسُّس كاهلي، يا الله ما هذا الحمل الذي لا ينزاح عني! إنّي مثقلٌ باللا شيء، اليوم تأكدتُ أنّي أحملُ على ظهري كيساً ثقيلاً من اللا شيء المُنهكِ، كنتُ رافضاً فكرةَ أن يُثقلك لا شيء في هذا الوجود فمضيتُ من بدء حملي أحاول إزاحة الثقل، لكن كيف تزيحُ ما لا تستطيع أن تراه.

يُذكرُ أنّ (سيزيف) عوقبَ بلعنةِ حملِ الصخرة من أسفل الوادي إلى أعلاه وحين يصير على حافة الجبل تنفلت منه للأسفل فيعود ويحملها مرّةً أخرى وتنفلت منه مرّةً أخرى وهكذا إلى المالانهاية ويُذكر كم كان يصيبه اليأسُ حينما تسقط والأمل حينما يصبح قريباً من أعلى الجبل. كلانا أنا وسيزيف يحملُ صخرةً أمّا صخرتي لا أراها والطريق مستويةٌ لا نهاية لها ولا تحملُ أدنى احتمالٍ لعثرةٍ تخلّ باستوائها أو بشعوري. كلّ ما تستطيع أن تشعرَ به هو ألم الظهر وبعد مدَّةٍ تعتادُ عليه فلا يبقى منه سوى قشعريرةٍ تأتيك في أعلى كاهلك كأنّك عملتَ بمشقةٍ لشهرٍ كاملٍ على بناء غرفةٍ لكَ وحين استلقيتَ على فراشكَ آخر ليلةٍ تذكّرتَ أنّك أقمت أساس عماركَ على قبر ابنك الذي توفى بعمر الأسبوع قبل ثلاثين عاماً.

إلى أصدقائي الذين اعتزلتهم فظنّوا أنّي أكرههم، إليكم جميعاً أنا خارجٌ من ألف فكرة انتحارٍ فهلّا استحلتم يداً وانتشلتموني منّي
إلى أصدقائي الذين اعتزلتهم فظنّوا أنّي أكرههم، إليكم جميعاً أنا خارجٌ من ألف فكرة انتحارٍ فهلّا استحلتم يداً وانتشلتموني منّي
 

الآن فهمتُ دعاء أستاذي "اللهم لا تحرمنا القدرة على التذوّق" كنتُ أسخر منه وأقول ألم يجد غير هذا الدعاء! لماذا لا يدعو لدخول الجنة فهذا أولى! نعم يا أستاذي لقد فهمتَ الحياة جيداً، إنَّ أسوأ ما يمكن أن يحصلَ للإنسانِ في حياته أنْ يفقدَ القدرة على التذوقِ فيصير كلّ شيءٍ بذات الطعم وذات الشكل وذات المضمون، تموت الألوان جميعها ويظلّ الرمادي شامخاً دليلاً على موتها، تتشابه الأطعمةُ جميعها كأنّ خلايا الذوق أصابها سرطان رماديٌّ.

أرجو منك يا صديقي أن تكفَّ عن إرسالك لي كتب التنمية الذاتية والخُطبِ الرنانةِ المحفزة على السعادة والحياة، ما زلتَ لا تستوعب أنّك لو جمعتَ كلّ نسخ كتب التنمية الذاتية بإصداراتها الأكثر مبيعاً في العالم ونقعتها في الماء وأشربتني منها كأساً في الصباحِ وكأساً في المساء لن أشعر بالسعادة، لستُ محتاجاً لما يُحفّزني ويدفعني للأمام، فأنا لا أرى معنًى للحافز، غارقٌ في قاع اكتئابٍ لا قاع له، لا أفرّق بين الأمام والوراء، كلّ مختلفٍ تساوى في عينيّ.

يصبح مؤنسكَ الوحيد في هذا القاع هو الانعزال، وحده من يتحمّلك ووحده من تستطيع أن تكون بهيئتك المكتئبة في حضوره، إلى أصدقائي الذين اعتزلتهم فظنّوا أنّي أكرههم، إلى حارس العمارة الذي لاحظ أنّي لم أعد أضحك على نكاته والتي عهدت نفسي الضحك عليها مهما كانت، إلى سائق الحافلة الذي صرخت بوجهه لا تمزح معي رغم أنّها ليست المرة الأولى التي يفعلها، إلى أساتذتي في الجامعة الذين لاحظوا تدهور مستواي الدراسي وأحالوه للإهمال، إلى كُرَةِ أطفال الحيّ التي أستحيل مثلها كلّ ليلةٍ في فراشي ليركلني القلق والظنون نحو عبثية الحياة واللامعنى، إليكم جميعاً أنا خارجٌ من ألف فكرة انتحارٍ فهلّا استحلتم يداً وانتشلتموني منّي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.