شعار قسم مدونات

حارة نجيب محفوظ.. القمقم الذي أنطوى فيه العالم الأكبر!

blogs نجيب محفوظ

يمكنك أنْ تمسك إحدى أحاديث "نجيب محفُوظ" -إذا أردت جلب شيء من الماضي- أو إحدى تكفيرات "أولاد حارتنا" صباح شتاء عملٍ تمتزج أشعة شمسه المنبثقة من مشربية المصلحة مع غبار حديث مختلط للناس في غير ركن غلبته زقزقة عصافير تنعم بدفء صباحٍ به برد وقور.. كما يديّ من قهوتي حينها. تستطيع أنْ تغوصَ في ذلك الزقاق بكورًا عن يمينه أو ربما يساره قهوة خرج صبيها يرش الماء أمامها وما أمامها غير الطريق ضيقة غير مستقرة؛ يتغني للست.. "الحب كده" متحاشيًا "محسن أفندي" علي كرسيه المعتاد بقهوته المعتادة بجرناله المعتاد في ذلك الركن، والذي يصيح بدوره وقد استفزته نغمة الطرب؛ "الله الله يا ست الله"، لبلوغ الصبي "مش عاوزة كلام الحب كدا".

وللحارة سماء غير السماء، وللحارة سحب غير السحب.. دنيا! فسماء الحارة مشربية السِّفيرة غرة الزقاق -إذا كنت تعي خبر السفيرة -وأحيانًا خجلة تقبع المشربية بذيل الزقاق إذا عجزت أذناك عن خبر السِّفيرة. أمَّا شمس حارتنا هي السِّفيرة نفسها حينما تهم بفتح تلك المشربية رويدًا، وإنَّه يتوقف حينها الزمن ثم يمضي في عهدٍ جديدٍ كأنَّ تلك اللحظة إيذان لكل من في الحارة لأن ينفضوا عن جلاليبهم غبار الليل ظلمته. يناديها صبي الفرن متملقا يعدل طاقيته "صباح الخير يا جميل".

أمَّا سحب الحارة فهي مزيج لأصوات بعض موظفين على غرة قهوتنا، تسري بينهم أحاديث خفيفة تجذبها إلى الأرض بقايا نوم قد علقت بها وترنو بها إلى الآذان رائحة البن المُحوَّج تتغلغل الأذهان.. ذلك كله لم يناقض هدوء الصباح المضطرب. يتنادى هؤلاء بحناجرهم وقل بأيديهم على صبي القهوة فرارًا من التأخير، فللمصلحة مدير لا تؤمن لدغاته. ثمَّ يشق أصواتهم تلك صوت "جميل أفندي الحلو" مديرهم ذاك يروم هو الآخر التبكير حتي إذا وصل قبلهم ربح فرصته في قتل كبريائهم بالتهزيق وقتل جيوبهم بالتقليل وقتل أجسادهم الهزيلة بالتكليف والتضعيف، وقتل عقولهم بالتفكير في مصاريف العيال وجهاز البنات والواد ال على وش جواز.

"سنية الرقاصة" لا سنية فقط، وإنَّما هي رمز له أبواب، ليس لكل العاهرات! بل لكل من يرقص سواء حول كرسي أو خزينة! لكل من يرقص حول الأحداث.. لكل من يضاجع كل البشوات والأسياد

ولقهوتنا دهليز، وفي دهليز قهوتنا تعاظمت مصاطب من الأرابيسك الفاخر قد فُرشت بحواشي القطن عليها سِدالٌ من حرير المُوصل. ومن تلك المصاطب الفارغة يخرج الحديث الساكن المحسوس يبعث الخوف في نفوس الناظرين وتخر الأنظار من الخارج عند أقدام ذلك الأرابيسك، حتى وهي خالية من أهلها الآن لا تُنتقص مهابتها، وكيف هذا والفتوات يتخذونها ونبابيتهم. وأمام القهوة يمينها تقبع "قنصلية الحارة" والتي تتعهد الأغراب دائماً؛ فتلك القنصلية هي بيت "سنية الرقاصة" وانظر ستجد بقايا أنغام وطرب ليلة أمس؛ "ارفعي الستارة ال فــ ريحنا.. أحسن جيرانا تجرحنا.. يا فرحانين يا مبسوطين يا مزقططين أوي احنا".

لكنَّه الآن ساكن منكسة مشربياته يتطلع إليه رجال الحارة في اشمئزاز يلوي وجوههم ويهمهم بألسنتهم "امتي ربنا يخلصنا – ربنا يهدي".. وتمتد من بواطنهم حبال غرائزهم متخاصمة لدي الباب أيهم يدخل أولاً إلى السنية. وترقب ذلك على عادتها "المعلمة فردوس" تستقرئ ما في باطن هؤلاء الرجال الذين أبدوا عكس ما أخفوا وأخفوا شر ما أبدوا. هي صاحبة القهوة وصاحبة أعلي كرسي في القهوة وأطول ليّ شيشة في القهوة، تأتي الضرب بالألفاظ كما يجيد الفتوة الضرب بالنبوت! تنظر إلي "قنصلية سنية" فتتمثل في عقلها صورة الليّ في يديها يُحكم علي عنق سنية فتقضَي.

كانت تشفق علي ذلك الشاب الذي تعهد ذلك الكرسي أقصي يسار القهوة حتي الآن ومنذ أشهر؛ هو "رفعت أمين" طالب بكلية الحقوق -دخيل علي الحارة لكن بقلبه-، فهو يهوي بنت "السكري بيه" أحد البهوات المفلسين الذين آل بهم الزمن إلى حارتنا. وكم مرةٍ انسل من المظاهرات التي تنظمها الجماعة في الجامعة فيأتي هنا فيتخذ الكرسي المطل علي مشربية "سميرة السكري" فيحظى منها بابتسامة أو حتي بنظرة ترضيه، وهو علي ذلك من الهيام وزملاؤه يعانون بحناجرهم بنادق الإنجليز.

ونظرة اشمئزاز أخري تُطلق من وسط القهوة حيث مجموعة الوطنيين الأحرار علي رأسهم "علي الشرقاوي"، يقذفون بتلك النظرة ذلك الشاب المُحب وهو من ترك نداء الرجولة وانفك من المظاهرة ليرتبط بهذا الكرسي هنا يحب ويتوصل! "علي الشرقاوي" وجماعة الوطنيين من الثوار الأحرار إنْ صافحت منهم لوجدت كفك منقُوشًا عليه الهلال يحتضن الصليب. عهدهم أهل الحارة في وسط القهوة يختصمون حينًا علي النظام الملكيّ متطلعين إلي مصر الجديدة، ومختصمين حينا أخري علي النظام الإيقاعي في كباريه مصر القديمة.

 

كل ذلك الاختلاف والتماثل ظاهرًا أو باطنًا يثير في نفسك الاضطراب والحيرة حتي تبصر مولانا "الشيخ عزوز" يجلس في سكينةٍ فتسري بنفسك السكينة، وحيدًا علي كرسيه يسار القهوة لا يرفع عينيه إلي بيت "سنية الرقاصة" ولا يشمئز بالنظر إلى الفتي العاشق ولا يختصم علي نظام حكم أو نظام حل؛ ذلك لأنَّه الشَّيخ هو الشَّيخ، فقط يدمن علي الشيشة، لكنَّه يحرم علي أهل الحارة ممن يدخنونها أنْ ينفثوا دخانهم في وجه المارة لأنَّ هذا بعيد كل البعد عن وصايا الإسلام.

وهناك في ركن مظلم يقبع "رفعت بك نظمي" من البهوات قد أفقده المال عقله أو أفقده فقد المال عقله، فانتهي إلي حارتنا، مخمورٌ فقط يجيد التعهد ببريمة شنبه الأبيض المصفر، يتكلف الوقار لكنه يكف عنه أو لا يجيده ما أنْ تمر إحدى المِلاح .. فيبري شنبه يتغنى وراءها: "اوعي تكلمني بابا جي ورايا.. ياخد باله مني ويزعل ويايا.. فاهم! اوعي تكلمني".. لذلك اوعي تكلمني! فالقهوة عند "محفوظ" عالم يقتضب الحارة والحارة رمز يتمثل الدنيا في وجوهها علي اختلاف أدراجها وأدراكها.

الحارة عند «محفُوظ» هي القمقم الذي انطوي فيه العالم الأكبر، هي الخريطة التي شرحت امتداد كل النفوس خارجها. كما قال
الحارة عند «محفُوظ» هي القمقم الذي انطوي فيه العالم الأكبر، هي الخريطة التي شرحت امتداد كل النفوس خارجها. كما قال "النَّجيب"؛ "إنَّ مَا يحَركني، حقيقةً، عالَم الحَارة
 

فـ "سنية الرقاصة" لا سنية فقط، وإنَّما هي رمز له أبواب، ليس لكل العاهرات! بل لكل من يرقص سواء حول كرسي أو خزينة! لكل من يرقص حول الأحداث.. لكل من يضاجع كل البشوات والأسياد. والفتوات لا الفتوات، بل كل متجبر يضع يديه على ما ليس له.. لكل باطش.. لكل متعسفٍ سلب الحق في أي شيء وكل شيء.. لكل من يحكم بالنبوت! ومولانا "الشيخ عزوز" هو كل العمم والذقون، عنوان لكل من اتخذ الدين حرفة لإدرار ما لا يأت بغير هذا السبيل.. ولتبرير ما لا يأت بغير هذا الادعاء والتمثيل.

الحارة عند «محفُوظ» هي القمقم الذي انطوي فيه العالم الأكبر، هي الخريطة التي شرحت امتداد كل النفوس خارجها. كما قال "النَّجيب"؛ "إنَّ مَا يحَركني، حقيقةً، عالَم الحَارة، هناك البعْض يقع اختيَارهم علىٰ مَكان واقِعي أو خَيالي، أو فَترة من التَّاريخ، لكن عَالمي الأثِير هو الحَارة." ونترك قهوتنا تسير وملء أذنيك أصوات لم تشتاق إليها الحارة قط، ولن.. أصوات النسوة في خصومةٍ أزلية بلا منطق ولا غاية وكأن المنطق ها هنا خرج من حيز السبب إلى حيز النتيجة فأصبحت أحاديث النسوة بلا منطق.. منطق!

وكأنَّ الغاية عادت من توسع النتيجة إلي لباس السبب فأصبح تخاصمهن بلا غاية سبب منطقي في تلك الخصومة! وأصوات الرفع والخفض من المتاع في الحوانيت والتي انتشرت فيها ملائكة تسري ترانيمها خلال أحرف أصحاب الحوانيت مسبحين حامدين مهللين ثم متنادين صائحين متخاصمين على بضائعهم! ورائحة العيش الصابح يحلق على رأس صبي الفرن مخترقًا الحارة في مهارة عجيبة لا يأخذه سحر روائح "حسن العطار" المتجاذبة مع نسيم ندي الصباح البارد. يجتمع كل ذلك متناسقًا غير تناسقنا؛ فتناسق الحارة تكوينها في عدم تناسقه.. يجتمع يدور يلتف يتداخل يُنسح يغطي الحارة من عُلي فتشعر بأنك علي شفا حفرةٍ من التيه.

حسنًا لقد تهت في هذي الدنيا الصغيرة من الأهازيج العتيقة الحيَّة التي تأبي الزوال علي البقاء، والتي عبرت عن حياة الشخصية المصرية ككل في عاداتها وتقاليدها كأهل للحارة، وفي اتجاهاتهم الإنسانية والآدمية كرمز يتسع لأشمل من ذلك، ومن يدري ربما عبرت الحارة عن روح الإنسان وعقله جميعًا؛ لذلك لا أجد العيب في التيه بينها؛ وعلي كلٍ أحيانًا يجب أنْ نتوه لنبلغ أماكن لا يمكن بلوغها.

وإنْ اِتُّهِمْتَ حينها بالجنون وإنْ اِتُّهِمْتَ بأنَّه قد طار عقلك كي تُأخذ من مجرد حارة وراقصة وسياسي ومُفلس أمثلة للبشر جميعاً.. فما العيب في الجنون! فأحيانًا لابد من الجنون لإدراك أفكار لا يمكن إدراكها.. وهنا يمكننا القول أنَّك طرت بعقلك لا طار عقلك. إن روايات "نجيب محفوظ" لم تمت بزوال الزمان، هي حية لأنها تحكي عن واقع محسوس بكل زمان ومكان، فأهل الحارة ما هم إلا رموز لأسماء تتحول وطبائع تأتي أفعال لم تتغير.. اقرأوا لمحفوظ تحفظوا الطبائع وما تضمر تلك الأنفس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.