شعار قسم مدونات

بين عشيةٍ وضُحاها تتلاشي براءة قلبك

مدونات - رجل وحيد حزين

كنا صِغاراً نمتلك ذاك القلبُ الطفوليُّ قلبٌ لا يعرف يوماً الكُره، قلبٌ لم يصبه يوماً ألم ولم يعكر صفوه نوائب الزمن.. كان ذاك القلب حينها يمتلئ صفاءً كصفاءِ ليلةٍ مقمرةٍ في يوم ربيعٍ دافئ.. كان القلب مليء بشتى ألوان الربيع الزاهية لم يعرف يوماً الأسود والرماديَّ.. لا أنقي من قلوب الأطفال ولا أجمل منها في هذا الوجود! لا يحملون الهمَّ يوماً أو لنقل أن أكبر همومهم في الحياة هي لُعبة يريدونها فيبكون من أجلها.. عندما كنا صغاراً كنا نجد من يحمل الهمَّ عنَّا عندما يتملكنا الخوف كنا نجري لنختبئ في أحضان أمهاتنا فنشعر بذاك السكون والطمأنينة فقلب الأم كان هو المأمن الوحيد لك في هذا الكون الكبير..

 

كان لا يشغلنا شاغل في هذه الحياة يعكر صفونا أو يذيقنا الحزن المرير.. حتى ضحكاتنا كانت تملؤها البهجة كانت تخرج بنقاءٍ غير معهود فتجد من يسمعها لا يَملُّ سماعها طوال اليوم.. ضحكاتنا كانت كالنغمة العذباء التي تخرج من هذا الفم الصغير الجميل لتزين ذاك الوجه الملائكيُّ.. وكثيرٌ من الذكريات التي تتسلل أشعتها في أوقات الوحدة لتنير ذاك الظلام بداخلنا تلك الذكريات تقابل النفس بمعانٍ رقيقة ونشعر كأن أرواح تلك الأيام الخوالي ترفرف حولنا فتكون عزاءً لحالنا أو على الأقل ترسم بسمة افتقدناها على ثغورنا.. فذاك الشباب ضاع في همٍ وعلامات الهرم بدت واضحة تغزو ملامحنا فلا نجد بُداً من الارتماء بأحضان الماضي والاستئناس بذكرياته.

 

إن كانت الأحزان تزيد قساوة القلوب وتجعلنا متأففين من قدر الله ساخطين على قضاءه فذلك خُسران للدنيا والأخرة

أصبحنا نكبر شيئاً فشيئا وأصبحت براءة القلوب تتلاشي تدريجياً إلى أن سيطر عليها الظلام فمحاها نبحث عنها كثيراً بداخلنا لم نرها.. حقاً لم نرها مطلقاً! نكبر فتزداد هموم الحياة بداخلنا تزداد إلى أن تضييق بها الأفئدة ذرعاً وتختنق بها الأنفس كمداً.. بالكاد نشعر بتحسن حالتنا حتي ضحكاتنا أصبحت مزيفة! قد نضحك من ألم دفين أو ظلمٍ مبين.. قد نضحك من قهرٍ أصابنا أو خوفٍ يرتجف منه قلوبنا؛ كل ضحكة تواري وراءها مسحةٌ من حزنٍ يُخبئه القلب فلا نحن نستطيع البوح ولا ثوران ذاك القلبِ يهدأ بداخلنا.. أصبحنا نلجأ للعزلة أصبحت الوحدة ملاذنا الوحيد أصبحنا نبني حولنا أسواراً صلبة عالية تحيطنا من كل جهة لا نريد لأحد أن يخترقها فلعلنا نجد بداخلنا ما نبحث عنه في وسط هذه الفوضى والعبث الذي يغمرنا.. بين عشية وضحاها نجد ربيع قلوبنا يتحول خريفاً مليء برياح عاتية تكاد تقتلع جذور قلبك ليخرج من بين جنبيك وتصيب عقلك بانهيار يكاد يفقدك صوابك..

 
كبرنا وعلينا أن نحمي أنفسنا بأنفسنا ومن أنفسنا لا أحد تلجأ إليه إلا نفسك وربك لا أحد يحمل همَّك بعد الآن علينا تحمل مسؤولية أنفسنا والثبات أمامها أو على الأقل التظاهر بالثبات.. إلى متى أيها القلب سيظل الحزن يُخيُّم عليك إلى متي ستبقي أضوائك منطفئة إلى متى ستبقى مدامعك في مآقيها لا تجف.. أمسيت تبكي في عُزلتك وأصبحت تضحك من ذاك الوجع الذي تُخبئه بداخلك..
 

مسكينٌ أنت يا قلب فالحزن قاتلك في كل وقت وحين.. ولكن علينا رغم كل ذاك الألم أن نتظاهر بالثبات فلا جدوى من الشكوى لأحد! ولكن أتدرون لولا هذه الآلام لأقفرت الأرض.. فاعلموا أن الحياة دارُ شقاء وابتلاء وعلينا تحمل كل ذاك الذي بداخلنا من ألمٍ ولكن كل هذا يهون بالتقرب إلى الله في كل وقت.. يهون بالتضرع إليه سراً وعلانية وفي الغدوِّ والرواح.. إنْ كانت هذه الابتلاءات والأحزان تقربنا من الله بالدعاء والصمود إليه فهذا والله مغنمٌ لنا ولقلوبنا.. أما إن كانت الأحزان تزيد قساوة القلوب وتجعلنا متأففين من قدر الله ساخطين على قضاءه فذلك خُسران للدنيا والأخرة.. فقد تكون هذه الآلام والأحزان منحة لنا يختبر الله بها صبرنا أو قد يجعلها الله بلاءً علينا لسخطنا وجزعنا وكل ما علينا أن نتحمل قليلاً إلى أن نحظى بنصيبنا من تلك السعادة.. فنحن على ثقة بالكريم بأن السعادة ستعود لهذه القلوب المكلومة يوماً وتملأ بفيضها ذاك الوجود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.