شعار قسم مدونات

الحيلة.. شريعتنا الأولى للدفاع عن أنفسنا

blogs الحيل

خدعونا حين قالوا الحرب خدعة، كان الأجدر بهم أن يقولوا الحياة خدعة، والأجدر بنا ألا نصدق شيئاً. لسبب ما تحكمنا الحيلة، منذ بدأ الإنسان اكتشاف ذاته، ثم تجاوزها للتواصل مع الآخر، بدأت حربه النفسية بالنضوج وأخذ صراعه مع ذاته يعظم، كان عليه أن يتوازن بينما داخله مليء بصراعات حية، وليحمي وجوده راح يحتال على نفسه ليقيها من شرورها، ويتصدى لهزائمه، فالهزيمة باب واحد؛ أن ترى الحقيقة كما هي، نحن ننتصر على الحياة بانتصارنا عل أنفسنا.

 

هكذا بنى الإنسان منا كائناً يدافع عن نفسه من هجمات الحياة بالحيلة، وسماها علماء ميكانيزمات الدفاع، ولفرط قسوة الحقيقة المجردة صار يرى في كل شيء الصورة الأقرب إلى قلبه، لكأن ثمة إجماع لدى الناس على تهذيب الحياة لتصبح ممكنة. تقول احدى الدراسات إنّ عقولنا تعمل باستمرار بوعي ودون وعي، على تجاهل الكثير من الأمور التي تكدر حياتنا وتسعى لتجميل العديد من المواقف والأشياء بفعل أنظمة أدمغتنا القادرة على استعمال الحيلة للدفاع عن حقنا المشروع في ممارسة الحياة.  

 

لنكن واقعيين، نحن نمارس الحيلة طوال الوقت، فحتى العناوين التي تتصدر سبل وطرق ترويض المشكلات معظمها قائمة على فنون ممارسة الحيلة، وإن لم يتم الإشارة إلى الحيلة بصورة صريحة، ويسري الأمر ذاته على عواطفنا وعلاقة العمل مع الزملاء والمدراء، وبالتأكيد تبدأ من علاقة الشخص بنفسه، ولتستحق الحيلة تقديراً أكبر، مُنحت أسماءاً مرادفة كفن التأثير على الآخر وعلى الذات.

وبفن التأثير ذاته شرع حمورابي ٢٨٢ قانوناً تضمنت معظم جوانب الحياة حتى أنه كان أول من وضع حداً أدنى لأجور العمال، "في ذلك الوقت.. نادتني الآلهه، أنا حمورابي، الخادم الذي سرّت من أعماله، والذي كان عوناً لشعبه في الشدائد، والذي أفاء عليه الثروة والوفرة، انا أمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء، وأرعى مصالح الخلق". لا يمكنني إنكار قوة حمورابي وتفوقه وتاريخه الحافل، لكنه بسط نفوذه أيضاً بفعل ربط ذاته بالآلهة ليعطي شرعية أقوى وهو ما بدأ به شريعته، لعل الفارق بينه وبين غيره من الملوك في ذلك العصر كما يروى أنه وصف نفسه خليلاً للآلهة ولم يجعل من نفسه إلهاً، ثم عاد وأكد بحيلة نفسية أخرى على جبروته حين سنّ قانوناً جزائياً وحشياً الى حد بعيد، متبعاً نهج انشر الذعر لتحصل على ما تريد.

أصبحنا نبتكر الحيلة وننصاع لها، القوانين وحدها لا تكفي، لا شيء بإمكانه أن يضبطنا سوى الحيلة
أصبحنا نبتكر الحيلة وننصاع لها، القوانين وحدها لا تكفي، لا شيء بإمكانه أن يضبطنا سوى الحيلة

 

وبفن التأثير، أو الحيلة، أو المؤامرة، كما شئت أن تسميها، حيكت كبرى المكائد السياسية والحربية والاقتصادية، لا شيء منها طرح على طاولة الحقيقة المطلقة جميعها أخذت أشكالاً وأسماء أخرى، أحد الكتب الذي يروي تاريخ الصهيونية، ذكر كيف في الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه ماركس البيان الشيوعي تحت إشراف مجموعة تسمى النوارنيين  كان كارل ريتر يكتب النظرية المعادية للشيوعية تحت أشراف مجموعة أخرى من النورانيين زعماء الصهيونية  بحيث يتسنى لرؤوس المؤامرة العالمية تفريق الأمم والدول لانقسامهم في معسكرين مختلفين، لما لا فالحيلة فن والحرب فن، ولم يعهد الكون يوماً عاش فيه بسلام.

 

كان استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية حتمياً حتى وان رفضت اعلانه رسمياً وتجاهلت قرار مؤتمر بوتسدام، جميع التقارير والتحليلات السياسية تؤكد أن التسليم كان مسألة أيام لا أكثر، لكنه كان حجة لاستعراض أسلحة أمريكا الهجمية وقدرتها على الدمار الشامل والسريع أمام ستالين الذي كان يطمح بأن يمتلك قنبلة ذرية كالولايات المتحدة، واستعراضها أمام العالم أجمع، حتى وان كانت تكلفة هذا الاستعراض الهمجي أكثر من مئتي ألف قتيل مدني. وهذا ليس بالشيء الغريب فحرب تحرير العراق من الدكتاتورية كما سمتها أمريكا، هي ذاتها التي حولت العراق الى ما نشهده اليوم، ولم تكن إلا حرب ابادة وتشويه لحضارة تعود الى آلاف السنين من أجل الحصول على النفط وتفكيك المجتمع العراقي ونشر المنظمات الإرهابية.

 

لم يضحكني خبر مفاده أن شرطياً تايلندياً يتنكر بزي ديناصور من أجل تنظيم حركة السير بعد أن شعر أن هذه الطريقة المبتكرة جعلت المارة والسائقين أكثر انضباطاً، أصبحنا نبتكر الحيلة وننصاع لها، القوانين وحدها لا تكفي، لا شيء بإمكانه أن يضبطنا سوى الحيلة، حتى أني أصبحت على يقين بأننا نؤدي أدوارنا حتى يتسنى لآخرين ممارسة حيلهم علينا الى أن يأتي قرار افناء أثرنا لأن الحيلة قد تمت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.