شعار قسم مدونات

الدين والفن.. بنظرة بيغوفيتشية

blogs علي عزت بيجوفيتش

يناقش علي عزت بيغوفيتش مسألة إثبات تدين الإنسان على أساس أنه يستمد وجوده من وجود عالم آخر، ويُثبت ذلك بعوز الإنسان لإشباع روحه بالعبادة أو بالفن! فيستشهد بأن أقدم سلف للإنسان الحال قد عُرف عنه ممارسةَ عبادات بشكل أو بآخر فيستشهد بما قاله بلوتارخ قائلاً: "قد نجد مُدنا بلا أسوار أو بدون ملوك، أو حضارة، أو مسرح، ولكن لم يُرى إنسان أو مدينة بدون أماكن للعبادة والعُبّاد".

نشرح في هذا المقال تلخيصاً مبنياً على نظرة المحارب الفيلسوف، إن وجود عالم آخر غير عالمنا يعتبر المصدر الأساسي للدين والفن، فإذا لم يكن يوجدْ غير هَذا العالم الحسيْ الفيزيقيْ الَّذي نعيشُ فيه لكانَ الفنُ مُستحيلاً، فكلُّ عملٍ فنيٍّ مِنْ شعرٍ، ورسمٍ، ونحتٍ، ومُوسيقى نجد فيه إيحاء ما إلى عالم آخر، عالم انطولوجي خارج جدار الوجود، عالمٌ قد عشنا فيه يوماً وكنا ننظر بدهشةٍ وذهول بينما كنا على ظهر أبينا آدم يخاطبنا مالك العالمين ويشهدنا أنه ربنا.

فالفن هو عبارة ذكريات أو توق إلى الماضي، إلى ذلك العالم الذي نستمد منه وجودنا البشر، فالناظر المُتمعنُ في الفن، من شعرٍ، ورسمٍ أو موسيقى سيجدُ فيهٍ جزءاً خفياً تقشعر له أبداننا، وتسيل دموعنا تأثراً به؛ فمثلاً عند مشاهدتنا للدراما التراجيدية تجدُ بعضهم يبكي وهو لا يشعر ببكاءه وإذا سألته عن سببِ بكاءه لا يجد أي تفسير، هو فقط تأثر بالفن فلا يعرف ماهيَةً لهذا التأثُر والانفعال الداخلي ، إنَّ الدموعَ هي تعبيرٌ عن إدراكنا للجزء المخفي في الفن كالفرزدق عندما خرَّ ساجداً لمجرد سماعه قصيدة الكميت في مدح آل البيتً.

في المجتمعات الملحدة نرى أن شوق الناس للدين قد جعلهم يميلون إلى الفن، فتصبح دار الأوبرا هي الكنيسة المقدسة، ولوحات أنجلو هي كتاب مقدس

إن الفرق بين العلمِ والفن أن العلمَ مهما بلغ من التعقيد لن يشعر بقصور في اللغة التي يحتاجها للتعبير عن ذاته، أما الفن فبسبب خاصيته الروحيةِ دائمُ البحث عن طرقٍ أخرى للتعبير عن نفسه فمهما زادت الكلمات ومهما أبحرنا باللغة أياً كانت اللغة، لن نستطيع التعبير عن الفن بالكلمات، فيلجأ بعضنا للتعبير عن فرحه بالرقص وعن حزنه بالدموع لا بالكلام! فالفن هو انفعالاتُ الإنسان التائقة للعالم الذي ننتمي إليه.

هكذا الروح كالفن لا تستطيع أن تعبر عنها باللغة لأنك ستجد قصور شديد في اللغة، فليس هناك مُعادل لغوي لسمفونية بيتهوفن التاسعة ولا يمكن ترجمة لوحات مايكل أنجلو إلى كلمات! بينما نستطيع التعبير عن العلم بالكلام مهما زاد عمقه وتعقيده. كما يذكر علي عزت بيغوفيتش أن شجرة الليمون التي يصفها الشاعر ليست كشجرة الليمون التي يتحدث عنها عالم النبات!

الفن لا يمكن التعبير عنه إلا بانفعالات داخلية، ولا يوجد اي تفسير لسبب للانفعال، ففي الشعر مثلاً إذا أردنا ان نُعبر عن إعجابنا بقصيدةٍ ما سنكون فقط نصف الجزء المادي منه كقولنا: أنه فصيحٌ واختار كلماتٍ قد أحسنَ اختيارها، ولكن ليس هذا هو جمال الشعر فلو ملئت الأرض بكلمات على نفس القافية لن يتذوق أحد منا ما يتذوقه بسماعه للشعر، وكذلك الرسم فنحن نستطيع وصف الجزء المادي منه كتناسق الألوان ودقة الأشكال الهندسية، أما الجمال الجذاب فيه لا يمكن وصفه أبداً لكونه روحياً.

مصدر لوحات مايكل أنجلو هي التصور المسيحي للمراحل التي سيمر بها الإنسان وإن قصائد دانتي الإبداعية مصدرها الأبوكليبس في اللاهوت المسيحي
مصدر لوحات مايكل أنجلو هي التصور المسيحي للمراحل التي سيمر بها الإنسان وإن قصائد دانتي الإبداعية مصدرها الأبوكليبس في اللاهوت المسيحي
 

في المجتمعات الملحدة نرى أن شوق الناس للدين قد جعلهم يميلون إلى الفن، فتصبح دار الأوبرا هي الكنيسة المقدسة، ولوحات أنجلو هي كتاب مقدس ولذلك المجتمع الذي حُرِم من حلاوة الدين يميل للفن كي يعوض هذا النقص الوجداني، "إن الفن ابن الدين فإذا اراد ان يظل حياً عليه أن يستقي من المصدر الذي جاء منه" أي من الدين.

فمصدر لوحات مايكل أنجلو هي التصور المسيحي للمراحل التي سيمر بها الإنسان وإن قصائد دانتي الإبداعية مصدرها الأبوكليبس في اللاهوت المسيحي، إنها صلة واضحة جوّانية ببن الدين والفن، فالفنانين والرهبان في أعين الناس من طينة واحدة تتمثل صلتهم في علاقة مايكل انجلو وجوليوس الثاني، حتى أن الفنانين لم يشعروا بوقع النظام الشمولي للكنيسة في العصور المتوسطة بينما كان ذلك من نصيب العلماء. الدين والفن يمثلان شوقنا للحياة الأخرى، والعلم والفلسفة يمثلان فضولنا وحياتنا في هذا العالم. التفنن والتدين هو محاولة القفز إلى العالم الذي كنا فيه قبل الهبوط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.