شعار قسم مدونات

التغيير المنشود.. كيف تأثر أزمة السلوك على بناء المجتمع؟

Blogs - مظاهرات التغيير

ليس المهم أن يكون الإنسان ساعياً نحو التغيير وحسب، وإن كان ذلك مطلباً ملحاً في حياة الانسان، لكن الأهم من كل ذلك أن يكون هذا الإنسان واعياً لمعنى التغيير. إذا كان التغيير، أي تغيير يقودنا من حالة إلى حالة مشابهة أو أسوأ، فبالأحرى ألا نسعى إليه أصلاً وكل عاقل يذهب في هذا الاتجاه نفسه، فكيف لنا أن نعي معان التغيير؟ إن مفهوم التغيير لو وضعناه في ميزان المفهوم العام لوجدناه يحمل في طياته وجوهره روح الانتقال من حال إلى حال، وهذا من طبيعة هذا الكون، فلا الأرض تبقى على حالها منذ أن خلقت ولا الطبيعة بقيت على حالها منذ أن وجدت، بل إن من طبيعة هذا العالم التغير والتبدل، والإنسان كونه جزء لا يتجزأ من هذا العالم أو الوجود، فلابد عليه أن يلتزم بهذا القانون الطبيعي.

يولد الإنسان ويتربى في بيئته الاجتماعية والطبيعية ويأخذ منها ما يأخذه من معان العيش والحياة وكيفية التصرف والتعامل مع محيطه الخارجي، إلى أن يجيء يوم ينمو فيه فكره وتتسع فيه طموحاته وتطفو ذاته فوق كل شيء موجود عنده. فيسعى لأن يتعامل مع ذلك تعاملاً مخالف، فيفرض عليه تغيير في السلوك وتغيير في نمط التفكير وآخر في مظهره وتعامله وما إلى ذلك من معطياته الحياتية التي يراها مهمّة جدّا بالنسبة لشخصه. فيجد نفسه أمام ضرورة قصوى لأن يغيّر ويبدّل في الكثير من الأمور المتعلقة به، وهكذا هو كل إنسان، الإنسان الذي يعيش بالطبيعة وعلى الطبيعة وفي الطبيعة. فالتغيير مسلك لا بد منه في حياة البشر ومن لم يفكّر في التغيير أبداً لا يكون سالم الفكر ولا سالم الاعتقاد بل وحتى ربما لا يتماشى عقله مع طبيعة العقول الباحثة عن أصل كل تغيير، والرامية لكل ما هو جديد والطامحة لالتقاط ما يحمله المستقبل من خيرات ومكاسب.

التغيير الاجتماعي والسياسي!

المعنى الصحيح للتغيير القاعدي لا يتمثل في الجانب الاقتصادي أو القدرة المعيشية أو ما إلى ذلك، وإنما أقصد هنا كل القصد أن نحدث ثورة قيَمية أخلاقية تجسّد فيها معان الإنسان والجماعة.

إن الحديث عن موضوع التغيير يقودنا إلى تقزيم الزاوية التي نرى منها حيثياته ومعانيه على اعتبار أن مفهومه يتغير ويتبدل في حدّ ذاته مع تبدل الاتجاهات والمنطلقات الفكرية. فالسياسي لا يرى تغييراً إلا في السياسة، والاقتصادي لا يراها إلا في الاقتصاد وهكذا. أما المتمعّن العاقل الذي يسعى إلى تغيير سياسي واقتصادي شامل، لابدّ عليه أن يعي تمام الوعي ما مدى تماشي هذا التغيير الذي يسري على مستوى الرأس مع الثبات، أو بالأحرى في كثير من الأحيان التنطع والدوغمائية التي تطغى على مستوى القاعدة. هذا إن كانت الطبقة المتوسطة مثقفة فتصبح منطقة المحكّ من الجانبين السفلي القاعدي والرأسي فتفشل في إبداء أي محاولة لإنهاء الصراعات الناتجة عن المخاض المتولد من التغير.

ولفهم هذه المعادلة أكثر لابد وأن نطلع على تجارب المجتمعات التي قادت تغييرات سياسية وربما اقتصادية، لكنها فشلت في الوصول إلى الأهداف السامية الكبرى التي سعت إليها منذ بداية تحركاتها، لأنها غيّرت من رأس المجتمع ولم تسعى للتغيير والتبديل في قاعدته التي قد تربت وأنشئت تنشئة معيّنة لا تتماشى إلا ومع الرأس القديم. الأمر الذي يحدث اختلالات اجتماعية واضطرابات سياسية، والدارس لهذا الموضوع له أن يعرّج على تونس أو مصر، الدولتان العربيان اللتان قادتا التحركات التغييرية في أنظمتها السياسية (الممثلة للرأس) دونما إحداث تغيير يذكر على المستوى القاعدي (ذهنيات الأفراد والجماعات). والمعنى الصحيح للتغيير القاعدي لا يتمثل في الجانب الاقتصادي أو القدرة المعيشية أو ما إلى ذلك، وإنما أقصد هنا كل القصد أن نحدث ثورة قيَمية أخلاقية تجسّد فيها معان الإنسان والجماعة، وتكريس لروح الأخلاق الفاضلة والسلوكيات الحضارية الإنسانية. تغيير على مستوى الوعي بالذات وإعادة برمجة العقل الجماعي ونشر ثقافة القيَم أولى من أي ثقافة أخرى على اعتبار أنه متى زالت القيم من مجتمعاتنا وواقعنا، كنا أشبه ما نكون بقطيع البهائم يستشري قانون الغابة وتمحى صفة الإنسانية من أذهاننا على مرّ الزمن.

ومن هنا، فإذا تكرّس في المجتمع مبادئ وقيم مثلى تصبح سمة واقعه وصورته الحقيقية العملية، كان لزاماً عليه أن يقود تغيير سياسي واقتصادي من غير عنف ولا آثار سلبية. وبالتالي يقطع حبال الخيانة وأيادي الغدر التي تدخل في صفوفه لإحداث شرخ وانسلاخ، كما هو الحال في التجربة المصرية التي صار فيها الشارع المصري ضحية لقلة الوعي والفهم التي استغلتها وسائل المخابرات المصرية والآلة الاعلامية التي تسيرها. فأصبحت توجه العقل المصري كيفما أرادت ومتى شاءت، فماذا لو كان العقل المصري واعياً ومتفهماً ومدركاً لهذه المخاطر التي حلّت به الآن؟ وماذا كان حال تركيا الآن لو نجح الانقلاب الفاشل الأخير؟ فالحاصل: إن أساس بقاء مشوار التغيير الإيجابي في أي مجتمع مرهون بمدى وعي أفراده وجماعاته. إنه الوعي أيها الإنسان، لا يمكن أبداً قيادة تغيير على أي صعيد كان، ما لم تهيئ له النفوس وتربى فيه القلوب وتنمى فيه العقول ويبنى له الانسان المغيّر. وبالتالي أزمتنا اليوم هي أزمة قيمية سلوكية أخلاقية، وجب قيام ثورات متلاحقة لإدراك ما قد فات وبناء المستقبل الجميل، فهذا هو التغيير المنشود وهكذا نبني مجتمعاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.