شعار قسم مدونات

ما الأثر النفسي الذي أنتجته النزاعات بمجتمعاتنا العربية؟

blogs ألم

لا تحار الألباب من تغير الواقع النفسي للأشخاص الذين يعيشون في ظل أزمات معينة، ولا يمكن لعاقل تجاهل الأثر الذي تتركه الحروب والنزاعات والتشريد القسري والملاحقة والاعتقال والتضييق المالي والمؤسساتي على كثير من المجتمعات العربية اليوم، في مشهد يكاد يكون مدروساً لإيجاد حالة من الكبت والضغط والتأثير السلبي على الفرد ليقول: نريد أي حل مهما كان وكيفما كان! العسكر الحاكم اليوم في العالم العربي، والأنظمة الاستبدادية التي تبذل جهدها وتنفق كل مقدرات شعوبها في قتل وتهجير وتهجين شعوبها، جزء من منظومة الضغط العام، فوجود الاستبداد في بلد لا يشهد نزاعاً مسلحاً يجعل من واقعه شبيهاً بواقع البلاد النازفة، ولكل جرح اسمه وكنهه.

 

الغريب أنك ما بين هذه البيئات الفاسدة والمفسدة، والحكومات والمتنفذين من أهل المصالح وتجار البشر وتجار الحروب وتجار الأزمات، تحار في توصيف الجهة الأكثر ضرراً ببلادك وشبابك ومستقبل الأجيال فيها، فلا الحروب تتصدر، ولا الاستبداد يستعلي، وكل ظروف الضغط الباطلة واحدة وإن اختلفت مسمياتها. الأزمة الحقيقية ليست في تداعيات الواقع الذي نعيشه على الشعوب عسكرياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، بل إن التهجير القسري كحالة منفردة أوجدت من الارتدادات السلبية على نفوس المهجرين وذويهم ومجتمعاتهم والمجتمعات التي وفدوا إليها كثيراً من الآثار السالبة على النفوس؛ وحولتها في كثير من الأحيان إلى حالات إنسانية غاية في القسوة والسوء، وبذلك تغيرت نظرة المجتمع لهم ونظرتهم لكل ما يحيط بهم.

 

بتنا نلمس ميلاد الكثير من السلوكيات السلبية لدى شرائح واسعة من الناس في أكثر من بيئة، وكأن الضغط عليهم قد آتى ثماره بشكل كبير وفق ما هو مأمول
بتنا نلمس ميلاد الكثير من السلوكيات السلبية لدى شرائح واسعة من الناس في أكثر من بيئة، وكأن الضغط عليهم قد آتى ثماره بشكل كبير وفق ما هو مأمول
 

هذا واقع من وقائع، فإذا أضفنا إلى التهجير القسري العوامل الضاغطة الأخرى التي ذكرت بعضها في مستهل حديثي، يظهر للعلن حجم التغيير الذي يترتب على كثير من الأشخاص ممن فقدوا بيوتهم، أو استشهدت أسرهم، أو تهجرت عائلاتهم، أو هدّمت مصانعهم أو فقدوا أعمالهم، ليجدوا أنفسهم بعد حالة من الاستقرار الاقتصادي أو الستر بالحد الأدنى يبدؤون حياتهم مجبرين من الصفر؛ في ظروف اقتصادية عالمية قاهرة، وفِي ظروف سياسية تنافسية محرقة، لتضيف هذه المعطيات المزيد من الضغط على واقعهم المضغوط أصلاً.

 

وسط هذا الضباب الذي يلف الواقع والتصورات للمستقبل في عيون وعقول كل من هؤلاء وهؤلاء، بتنا نلمس ميلاد الكثير من السلوكيات السلبية لدى شرائح واسعة منهم في أكثر من بيئة، وكأن الضغط عليهم قد آتى ثماره بشكل كبير وفق ما هو مأمول، فمنهم من اضطره الضغط ليسلك مسالك التيه، ومنهم من جنح للخيانة، ومنهم من امتهن النصب والغش والخداع، ومنهم من لا يزال يعضّ على جرحه بصمت العظماء ليعيش شريفاً أو يموت عزيزاً، ضارباً بعرض الحائط كل تداعيات الواقع متقائلاً بفرج الله المنتظر.

 

ومع ميلاد هذه النفسيات الضاغطة، التي يؤدي وجود حالة منها في البيئة إلى أثر سلبي – ناهيك عن انتشار أعداد منها في المجتمع – كان لزاماً على كل المؤسسات الثقافية والمعنية بالإنسان والطفل والمرأة وحقوق البشر أن تلتفت إلى معاناتهم وآلامهم، وأن تتحمل مسؤوليتها في التوجيه والتأثير الإيجابي وفتح أبواب العمل والأمل أمامهم بعد أن أجبروا على دخول نفق التيه رغماً عنهم. لقد دفع عدد غير قليل من هؤلاء ضريبة كبيرة من ماله ووقته وجهده وأسرته وحالة الاستقرار التي عاش فيها مقابل الواقع الذي فرض على كثير منهم، ونحن نتحدث هنا عن ملايين البشر وليس عن عشرات منهم، فكان لا بد للنخب من التوجه إلى حاجاتهم النفسية وواقعهم الحالي لرسم خريطة تعامل حكيمة وفق الممكن لزرع الأمل في نفوسهم، فغياب الأمل لديهم هو الكارثة وليس الواقع السياسي العام!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.