شعار قسم مدونات

المواقف.. مرآة الحقيقة!

blogs أصدقاء

القيم الإنسانية ليست مفاهيم نظرية وكلمات عابرة فقط، ولكنها مواقف حياتية تُثبتها الأفعال التطبيقية، لأنها تظهر حقيقية في واقعنا العملي لا في الأقوال التي تقال شفهيا أو كتابيا وحسب، من هنا يمكن أن نتساءل: في ماذا سيفيد كتابة المقالات والكتب والمؤلفات عن القيم الإنسانية إن كان النفاق والخيانة والظلم مترسخا في سلوكياتنا؟ وفي ماذا ستنفع أقوالنا التي نُسمعها لغيرنا وحروفنا التي نكتبها لهم إن كانت لا تتجسد في واقعنا العملي وفي أفعالنا وتصرفاتنا؟ بمعنى آخر ما جدوى أن ندعي أمورا ونتحدث فيها ونفتخر بها وهي لا توافق مواقفنا بل تكون على نقيضها؟

 

مهما كانت الأقوال جميلة والادعاءات مثالية تبقى بلا قيمة أمام المواقف المجسدة في التصرفات العملية التي تختصر طريق التعرف عن حقيقة ما يقال وما يتم ادعاؤه، فالمواقف تُريك الحقيقة كما هي بلا تنميق وتزييف، وتبين لك الأشياء بشكل واضح؛ فموقف واحد قد يغنيك عن آلاف الكلمات.

 

وأغلب الأمور لا تقترن بالصدق والمصداقية لمجرد وصفها بذلك، فلا يمكنها أن تصيب كبد الحقيقة سوى بالمواقف، ولا أغالي إن قلت أن صدق ما يقال لك لا يثبت إلا بها لا بغيرها، فمعرفة حقيقة تلك الأشياء لا تبرزها إلا المواقف، وإيمانك بها لوحدها هو الذي سيجعل منك إنسانا لا يترك أي مجال لأحد بأن يراوده ويدغدغ مشاعره بالكلام المنمق أو بالوعود المغرية.

 

كثر في هذا الزمن من يحترفون الأقوال الرنانة والكلام المعسول والتعهد بالوفاء والحب، ولكن حين تأتي وقت الشدة تفضحهم مواقفهم الجبانة وغير المبدئية، فكن حذرا واستفق من غفلتك ولا تدع أمدها يطول، وأعلن بصراحة كفرك البواح بكلامهم الرنان الفارغ من الصدق وبوعودهم الواهية والكاذبة التي كانت السبب الرئيس فيما أنت فيه الآن، وحاول أن تعيد الوعي إلى حظيرة عقلك الذي أدرك أن الصدق تظهره المواقف وحدها، وأرفض كل ما يمكنه أن يعبث بك وبحسن تعاملك وصفاء نيتك.

 

الأحبة الحقيقيون لا تلدهم لك القرابة ولا الصدفة ولا الأيام بل تلدهم لك المواقف، وفي هذه الحياة يلزمك أن تلتفت لها لا لشيء آخر، فالصادقون هم أصحاب المواقف الذين يتبنون القيم الإنسانية

إن الحياة لا تخلو من التعرض إلى المواقف التي تجبر المرء على التصرف بحكمة، كما أن الدنيا مليئة بالمواقف التي تساعدك على التعلم من كل ما تواجهه وتخطو بذلك خطوة نحو الأفضل، فالمواقف هي التي تجعلك تعيد النظر في كثير من علاقاتك الإنسانية والاجتماعية والعاطفية، لهذا فالمواقف الحياتية تستحق لقب الأستاذية لأنها تعلمك كثيرا من دروس الحياة، وتمكنك من التمييز بين الصادق والكاذب وبين النزيه والمحتال، إذ لا بد من أن تنتصر المبادئ النبيلة والقيم الإنسانية في مواجهتها للمصالح الشخصية والأغراض المادية.

 

ستدرك لا محالة أنه لمن الضروري أن تدع المواقف الحياتية تأخذ مجراها لكي تثبت لك حقيقة أمور كثيرة؛ وستتكلف بمفردها إسقاط الأقنعة التي يلبسها من حولك، وتظهر لك مدى صدق وفعالية القيم الإنسانية التي يتبجح بها ويتم ادعاؤها علنا، أي أن المواقف هي المحك الحقيقي الذي يرفع ويخفض آخرين، كما أنها فاضحة تكشف لك معدن الإنسان وما في باطنه رغما عن أنفه، بمعنى أنها هي من ترد المرء إلى حقيقته، وبها يفضح لفه ودورانه وسعيه لخلاف ما يحاول إظهاره، فيُكتشف خداعه ومكره، لأنه يبقى مجرد ظاهرة صوتية مواقفه لا تسمن ولا تغني من جوع، وهو فقط يُعطش غيره لما هو باطل مليء بالزيف والخداع.

 

قد يُعجب المرء في بعض الأحيان بأمور كثيرة تحيط به رغم زيفها، لكن حين سيدرك حقيقة الأمر ولو متأخرا سيدفعه ذلك ليتساءل: ما الخطأ الذي اقترفه كي أخدع؟ بعبارة أخرى؛ ما الذي جعلني أثق ثقة عمياء فيمن يتعامل معي وأصدق كل كلام يقال لي؟ التعامل بحسن الظن مع الخلق لا يعني السقوط ضحية للنفاق والخداع، وجعل المواقف هي الفيصل والحكم لا يعني أن المرء يسيء الظن بالآخرين بقدر ما أن الحكم على الغير عن طريقها من الفطنة التي ستجعلك تكتشف بسرعة حقيقة التمثيليات التي يتعامل بها معك والتي يكون تأليفها وإخراجها متقنا.

 

والأحبة الحقيقيون لا تلدهم لك القرابة ولا الصدفة ولا الأيام بل تلدهم لك المواقف، وفي هذه الحياة يلزمك أن تلتفت لها لا لشيء آخر، فالصادقون هم أصحاب المواقف الذين يتبنون القيم الإنسانية في أفعالهم بصدق وإخلاص، فإما أن تكون حقيقيا أو مزيفا وليس هناك خيار آخر، وحسب التعبير الشكسبيري: "إما أن تكون أو لا تكون".

 

لهذا فأوجع الطعنات هي التي تأتيك ممن أعلنوا حبهم وإخلاصهم وأمانتهم وعدلهم بالكلام وخانوا كل ذلك بالأفعال، وبذلك سقطت عنهم القيم الإنسانية التي كانوا يتبجحون بها، واختفى نبلهم وتجلى شرهم الذي لا يمكنه المرور من مرآة المواقف دون أن يُرى بوضوح. 

 

والمواقف لا تظهر إلا في الشدائد والأزمات؛ فهي التي تبين لك معادن الناس وأخلاقهم وقيمهم، لأنها تجلي كامن صفاتهم، فلكأنما تكشف الحقيقة الخفية وتعري عما تم اضماره، أي أن المواقف اختبار يمكنك من قياس صحة أمور كثيرة وبها يتم معرفة الحقيقي من الممثل الذي تسقط أقنعته، وبيتم أيضا فهم العلاقات بين الأشياء والأحداث، وذلك مما سيسهل عليك إصدار الأحكام والتقييمات انطلاقا من معطيات حقيقية غير متوهمة، لأنها مبنية على أساس متين.

 

ولن تستطيع معرفة حقيقة الإنسان أو أن تختبر شدة بأسه إلا عبر المواقف الكاشفة، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالقضايا الإنسانية التي تتطلب إخلاصا وصدقا في التعامل؛ الشيء الذي يستدعي العزم وبذل الجهد فداءً لها، كما لا تنسى أن موقفا واحدا فقط قد يجعلك تدفع ضريبة قاسية جراء تمسكها بمبادئك الرافضة للانصياع والخنوع.

 

ستدرك لا محالة أن الأصوب هو التعامل مع كل إنسان بحقيقته من خلال مواقفه التي هي بمثابة مرآة تعطيك صورته كما هي في حقيقتها بلا فبركة
ستدرك لا محالة أن الأصوب هو التعامل مع كل إنسان بحقيقته من خلال مواقفه التي هي بمثابة مرآة تعطيك صورته كما هي في حقيقتها بلا فبركة
 

إن الثبات في المواقف والصبر على مواجهة المصاعب والمخاطر يحتاج لرباطة الجأش والتحمل والاقتداء بأفعال من يتبنى القيم النبيلة والمبادئ السامية في مواقفه والذي يشار له بالبنان نظرا لمواقفه المشرفة في الأزمات والشدائد، لا أن تكون من أصحاب الأقوال والخطابات الرنانة التي تبقى مجرد تنظير لا يعرف التطبيق عمليا.

 

ولا خير يرجى في الذي يتخلى عن نصرة القضايا العادلة ولو بموقف غير معادي، وبالخصوص من تجدهم من الأوائل الذين يناورون على المبادئ وعلى مصائب الآخرين؛ ويظهر ذلك بشكل واضح حين تصير القيم ومآسي الغير ثمنا لمكاسب ومطامع شخصية، فصاحب المعدن الأصيل نفسه عزيزة لا يرضى أن يضع ذاته في موقف يتصرف فيه بالخبث والمكر، ولأنه أيضا لا يحمل أقنعة مزيفة بل مواقفه مرآة حقيقية لما يحمله باطنه.

 

وأظنني لست بحاجة إلى القول بأن المواقف وجدت للتمحيص وليس الغرض منها تتبع نواقص الآخرين وعيوبهم أو شيء آخر؛ فبها يتمايز المخلصون على المحسوبين من أهل النفاق أصحاب المصالح الشخصية الضيقة، والانحراف عن جادة الصواب غير مبرر والاستمرار على ذلك النحو غير جائز أخلاقيا، وهذا مما يدعوا إلى النقد الذاتي ومراجعة تصرفاتك وعلاقاتك لإصلاح مكامن الخلل عندك وأماكن الثغرات في شخصيتك.

 

وفي الأخير ستدرك لا محالة أن الأصوب هو التعامل مع كل إنسان بحقيقته من خلال مواقفه التي هي بمثابة مرآة تعطيك صورته كما هي في حقيقتها بلا فبركة، والشيء الذي ينبغي تأكيده هو أنه ليس بإمكان الجميع إتقان فن التعامل مع المواقف؛ فلكل موقف خصوصيته ولكل شخص مواصفاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.