شعار قسم مدونات

الكتابة النسوية.. هل تكتب المرأة بنفس الخط السردي للرجل؟

BLOGS كتابة

إنّ إحساس المرأة بالدونية لم يتوقّف البتّة في فضاء الفكر الإنساني، فهي إلى اليوم مازالت ترى نفسها ناقصة عن الرجل في بعض الأمور على الرغم من المكتسبات التي حظيت بها طيلة عقود من الزمن، فهي مازالت تطالب بالمزيد من الحقوق التي سلبها إيّاها معشر الرجال. وفي معرض حديثنا عن الرؤية النسوية لمجمل القضايا الكوسمولوجية بما فيها الأدب وما يمثّله من دعامة ركيزة في إنتاج الحضارة، نتعرّض في هذا المقال إلى مفهوم الكتابة النسوية بين التأسيس والتجنيس.

 

في البداية وكشيء من الايتيقيا النقدية، وجب علينا التنويه إلى كون مفهوم الكتابة النسوية هو مفهوم فيه الشيء الكثير من البدع الأدبية فقد وقع التعسّف عليه، ناهيك أنّه هو مجافي للمنطق الإبستمولوجي. ذلك أنّ الأدب النسوي انطلاقا من الكتابة الخاضعة لسلطة الجنس رجل في مقابل امرأة قد خلق مفهوما مغلوطا استحدثته الثقافة الذكوريّة الشرقية المتسلطة على مجتمعنا العربيّ لإبراز دونية الأنثى وابداع المرأة العربية.

 

ولأمانة السياق التاريخي الأدبي نجد مفاهيم كثيرة حان الوقت بعبارة آدموف "الآن وهنا" بل وهنا تحديدا إلى مراجعتها والتثبّت من صلوحيتها في المدوّنة الأدبية العربية. نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر مفهوم المبدع الشّاب، وكذلك المبدع العصامي وصولا إلى الكتابة النسوية إلخ… ففعل الكتابة لا يخضع لمنطق جنس صاحبه، فهل سيغيّر من الامر شيئا لو كان الكاتب رجلا أو امرأة؟ وفعل الكتابة أيضا لا يتطلّب استخراج مضمون ولادة حتّى نتحدّث عن مبدع شاب أو كهل أو بلغ من الكبر عتيّا.

 

عبقرية نازك الملائكة الشعرية لم تتولّد من كونها أنثى ولكن لأنّها كتبت نصوصا شغلت القرّاء والنقّاد طويلا. ويكفي أن نذكر نص قصيد الكوليرا الذي أحدث منعرجا في طريق الأدب العربي

فما يكتبه العصامي أو المتتلمذ على يد معلّم لا يشوّه فعل الكتابة أبدا، فلا علاقة لها بكرّاس التلميذ ولا بوصايا المعلم. فالكتابة هي الكتابة شكلا ومضمونا، وعنبة النص هو العنوان سابق أو لاحق له، والنصّ هو النصّ الذي يبقى الأرضية الحقيقية للحكم عليه بالجودة أو الابتذال ولا دخل للجنس في أيّ عملية نقدية أو تقويمية، فلا الذكورة فخر للكتابة، ولا الأنوثة عيب على الأوراق. وحده النتاج النصّي هو الخاضع للتأويل والتفصيل، فضلا على أنّه حاضنة جماليّة لا تتأثّر المرّة بتقسيمات جنسيّة أو فئوية.

 

فمثلا عبقرية نازك الملائكة الشعرية لم تتولّد من كونها أنثى ولكن لأنّها كتبت نصوصا شغلت القرّاء والنقّاد طويلا. ويكفي أن نذكر نص قصيد الكوليرا الذي أحدث منعرجا في طريق الأدب العربي، وزعزع ثوابت الشعر حينها، فكانت رائدة الشعر الحديث مجدّدة فيه. فما أحدثته نازك الملائكة وفدوى طوقان وغادة السمّان واللائحة تطول، وما تفعله اليوم بثينة خضر وضبيه خميس ونبال قندس وفاطمة بن محمود واللائحة تطول أيضا… ترجع بالأساس الى أحقّية المنجز الابداعي في بنيته الفنية واللغوية، وفي جماليته وصنعته المتفرّدة، وفي طرافته وامتثاله لقواعد الكتابة الحقيقية.

 

كلّ هذا بعيدا عن جنس صاحبه، لذلك فإنّ هذا التقسيم بين كتابة نسوية وأخرى ذكورية حسب منطق الكتابة نفسها هو تقسيم ملغوم وتحيط به شوائب عديدة. من زاوية أخرى، إنّ خلف مفهوم البحث في مسألة الكتابة النسوية يعتبر سياقا دلاليا محمّلا بالتناقضات، فمن جهة أولى يقابلنا مصطلح الكتابة، ومن جهة ثانية تطلّ علينا مفردة النسوية، فالجمع بين المصطلحين يفرز سياقا أدبيا متقوقعا على ذاته، ويرفض الانفتاح على تجارب أخرى نظرا للعقدة الجنسية المسيطرة عليه.

 

ونصبح إزاء كتابة خاصة للمرأة وكتابة خاصّة للرجل، الشيء الذي بطرح إشكالا موغلا في الشكلانية النقدية يصوّر فعل الكتابة عند النساء يمتاز بشيء من الخصوصية عن فعل الكتابة عند الرجال. فهذا التقابل الجنسي، بين ما هو مذكر وما هو مؤنث استنزف جميع المبادئ التي حدّدت الكلمات والصور داخل النسيج المجتمعي، والتي عاشت على مبدأ احترام المرأة داخل الذاكرة الشعبية للذكور منذ نشأة أولى أشكال التجمّع المكاني والزماني. إذ لا يمكن إنكار ما دوّنته الكتب التاريخية عن مساهمات المرأة كمحرك بارز للإنتاج الإبداعي عموما والكتابة خصوصا سواء اكان شعرا أم نثرا أم سردا أم مسرحا إلخ.

إن العمل على انتاج واستهلاك مفهوم الكتابة النسوية كدعامة أدبية ترتكز عليها الذاكرة المؤرشفة للإبداع –والعبارة لبول ريكور-  تدفع الناقد والباحث والقارئ على حدّ السواء إلى الدخول في مواجهة مجانية مع مفارقة فكرية حول ما تكتبه المرأة عن الرجل، وهذا كفيل بإرجاع ذلك الصراع المقيت بين أفضلية الرجل عن المرأة، فالرجل الشرقي لا يقبل النقد من أنثى، فهو سي السيد على طريقة الأفلام المصرية. في المقابل، نلحظ أنّ ما يكتبه الرجل حول المرأة قد تخطّى الحاجز العددي وصار امرا بديهيا، حتى أنّ ملامح هذه الكتابة وتفاصيلها قد تبلورت بصفة شبه نهائية عن نمطية أدبية ذكورية معلومة الأركان.

 

يبقى العامل المشترك بين جميع هذه الدراسات والأبحاث هو تلك المقاربة القائمة على أفضلية استقراء النتاج الأدبي النسائي داخليا
يبقى العامل المشترك بين جميع هذه الدراسات والأبحاث هو تلك المقاربة القائمة على أفضلية استقراء النتاج الأدبي النسائي داخليا
 

ومن هنا يصحّ القول بأنّه لو اعترفنا بفعل كتابة نسائية كجنس مستقلّ بذاته يمتلك هويته الخاصة، فإنّنا نكون أمام طرحين متباينين: أوّلا وجود كتابة نسوية يقتضي وجود كتابة ذكورية وهذا بحدّ ذاته دعوة على مجادلة الإثنينية الميتافيزيقية أي الروح والجسد، وهذا في مجتمع عربي محافظ والذي لا يسمح بالغوص في مسائل يراها محرّمة كالجنس وشهوة الجسد. ثانيا على ضوء الكتابة النسوية، هل تخضع الكتابة الذكورية إلى ذات الخصوصية التي تخضع لها الكتابة النسوية، وهذا لوحده كاف بوضع فعل الكتابة ككل في خانة الفئوية الجنسية فلا يمكن الحديث بعدها عن نتاج نصّي صالح للتفاعل الفكري، أو كبارومتر ذو منزع عقلي يحوّل الكتابة إلى مركز يشعّ على العامّة.

 

ولعلّ هذا ما دفع الناقدة إلين شولتر في معرض بحثها عن مسألة الكتابة النسوية، إلى إخضاع هذا المفهوم إلى تحليلين إثنين: الأول يبحث في إبداع المرأة في مقابل الإنتاج الإبداعي للرجل، وفي هذا الإطار تحضر صورة المرأة كضرب من ضروب النمطية في الأدب فهي صورة مستهلكة زمانا ومكانا بمعنى أوضح المرأة في مقابل الرجل. إضافة إلى الإيقاع بالقارئ في شراك التبعية الجنسية عبر خدمة صورة متضاربة عن المرأة وصنعها في ذهنه من خلال أبعاد فنية وأدبية وثقافية متنوعة. أما التحليل الثاني، فهو معنيّ بكلّ كيان المرأة الجسدي والوجداني والنفسي.. المرأة ككاتبة ومنتجة ومستهلكة لمعاني النص بما هو محكّ لقول الحقيقة أو البحث عنها، وتُعنى مادته الأدبية بالديناميكية النفسية لكل إبداع أنثوي. يقول الناقد المغربي سعيد يقطين في هذا الإطار: الانطلاق من النص ذاته بعيداً عن الآراء المُشكَّلة حوله، لأنها تعوق إنصاتنا إليه والإمساك بطرائق اشتغاله، للوصول إلى قواعد عامة أقرب إلى التجريد، يمكننا اعتمادها لتقويم التجربة، ووضعها في مسارها الملائم.

 

في الختام، يبقى العامل المشترك بين جميع هذه الدراسات والأبحاث هو تلك المقاربة القائمة على أفضلية استقراء النتاج الأدبي النسائي داخليا، ونعني بلفظة داخليا كل ما هو بعيد عمّا أنتجه الفكر الأدبي العربي، والذاكرة الشعبية الجماعية من مقرّرات تيوقراطية وأحكام مسبقة ظلّت لعقود خارج السياق الزمني النصي، كما أنّها ارتبطت في مجملها بأجندات أدبية اكسترا-نصية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.. ولنا أن نسأل في محصّلة هذا المقال: هل تكتب المرأة بنفس الخط السردي للرجل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.