شعار قسم مدونات

روبوتات الاستهلاك.. ملامح ضاعت في العدم!

blosg الاستهلاك

لقد مسخَ هوسُ الموضة اليوم البشر إلى وحوشٍ مُتخصّصة في إنتاج القُمامة، فترى ملايين النّاسِ يلهثُون وراء شبح الاستهلاك، كائنات قلقة مهووسة بالاقتناء المفرط والحصُول على كلّ ما هو جديد في السّوق، شبابٌ هنا وهناك، مِنهم من وضع تسريحة للشعر تثير اشمئزاز البعضِ واستحسان البعض الآخر، ومن الفتيات من لبسن ملابسة عصريّة مختلفة ألوانها وأشكالها بما لا يناسبهم حتّى، مظاهر شتى والدّوافع متعددة.

 

وإنّهُ فعلاً لمشهدٌ يبلغ روعة السّخف، فإذا ما سألتهم عن فائدة كلّ هذا اللّهاث، وجدت أنّهم هُم أيضًا لا يملكون مبرّرات ولا أسباب مُقنعة، مندهشون مثل الجميع من حالتهم، غير مستوعبين لما يجري ولا مُقتنعين كامل الاقتناع، يسعون ربّما من خلال ذلك إلى إخفاء عُريهم الفكريّ والثقافيّ، أو ربّما لأسبابٍ تتعلق بتقدير الذّات، أو تعويض نقصٍ ما، وأحيانًا أسبابٌ أخرى لها علاقة بوفرة المال والرغبة في إبراز القدرات المادية، أو بسبب الاضطرار إلى مجاراة الأقران والخضوع لضغوط المجتمع، فالموضة تجمع بين الامتثالية الجمعيّة والتظاهر بالقرار الفردي، وبين الخضوع لإملاءات تعسفيّة والمطالبة بالجدّة الفردية. وما بلغته الإنسانية اليوم من عبادة المال والماديّات والمُتع العاجلة، جعلها تفقد القدرة على مواجهة المسيطرين ومقاومة الغيلان المنفلتة التي حوّلت البشر والأشياء إلى نفايات يمكن رميها واستبدالها بسواها.

 

والمصيبة أنّ المشهد ليس حالةً نادرة تقودها مجموعة معيّنة من الشّباب، بل هو واقعٌ تتشارك في آدائه جميع فئات المُجتمع كبيرُها وصغيرها، نساؤها ورجالها… فهناك أمّة ذات ماضٍ منكوب، من ملايين الأفراد، تُعلن عجزها في تفسير الظاهرة، فلا يبقى لها سوى العبث والسّخف ملجأ للفهم. والسّخف عمومًا هو ظاهرة تلاشي عقل التجربة أمام مزاعِم النص الاعتباطي. فحينما يتعارض النّص مع عقل التجربة، وتفرضُ سيكولوجية النّص الغرضيّة تجاهل موضوعيّة العقل السويّ للتجربة، يُصبح ذلك بالتّكرار سلوكًا مُتّبعًا، ثم منهجًا، ثم ذاتًا ثقافيّة قائمة على مُفارقة السّخف كعقلٍ للسّلوك.

 

نحنُ نلهثُ وراء تغيير الأشياءِ بقصد التّجديد، وبسبب هيمنة طرز الذّوق الحاكمة، فنتخلى سنويًّا عن ملايين الأطنان من الثّياب الصّالحة للاستعمال ونسعى بنوعٍ من النّهم المَرَضيّ للحصول على الجديد من المنتجات

باختصار، قد انتصرت حقيقتنا الثقافيّة على الحقيقة، وانتصرت هجريّتنا على وعينا، فانتصرنا على وعينا وإنسانيّتنا، وأصبحنا حالة سُخفٍ ثقافيّ واجتماعي فريدة. وعُرفنا كمُجتمعاتٍ استهلاكيّة بمدى سخافتنا واختلافنا عن بقيّة العالم في الوعي، فاستجاب العالمُ لموضوعيّة العلاقة بيننا وبينه، ولمزاجه السيكولوجيّ المترتب على ذلك، وتناولنا كما يستوجب سُخفنا البنيوي. وأكثر ما يؤلم من مظاهر هذا التناول هو استخفافه بنا وازدراؤه لثقافتنا ولنموذجنا الاجتماعي المترتب عليها، وبالتالي اعتبارنا مُجتمعًا استهلاكيًّا بالدّرجة الأولى ينجرُّ خلف الجماليّات وما يُمليه عليه السّوق، وهامشًا منتهكًا لرغباته ومصالحه.

 

فوضعُنا اليوم، بات أسوأ بكثيرٍ من قرويّ جاهلٍ يدخل مدينة تغصُّ بالمعالم المعقّدة للمكان والزمان والنّاس، يواجه ما حوله بدهشة العقل الأميّ، وتواجهه حقيقة الناس والمكان بتعاليها وازدرائها ولصوصها ودجّاليها وعقلها المنظم والانتهازي، فيُحاول التملّص من نفسه بارتداء ما يتناسب مع ما هو فيه، بسبب الضّغوط الهائلة التي يُمارسها المجتمع عابد المظاهر فيرغمه على التّماهي مع السّلوك الجمعي، لينصهر في القطيع المتماثل الذي تمّ إخضاعه للنّمط الذي تبتغيه السّوق والسياسة وتفرضه معدّلات الإنتاج، فيغدو الكائن روبوتًا استهلاكيًّا مُسيّرًا، ضاعت عنهُ ملامحهُ البشريّة، فتاه عن هويّته في شوارع الموضة يسير بخطواتٍ مترنّحة بين الماركات والمُنتجات.

 

تتمحور ظاهرة الموضة المتسيّدة على المجتمعات الاستهلاكيّة حول فكرة: أنّ كلّ ما يتمّ شراؤه اليوم سيتمّ التّخلص منه سريعًا ليكون في عِداد النفايات، لأنّنا في الحقيقة لا نتعاملُ مع مُصطلح التّغيير كضرورة مُلحّة تفرضُها علينا أسبابٌ واقعيّة ككون ما تمّ شراؤه لم يعُد يُناسبُنا أو لكونه باليًا أو غير صالحٍ للاستعمال، بل إنّنا نستخدمه للتّعبير عن الكماليّات، فنحنُ نلهثُ وراء تغيير الأشياءِ بقصد التّجديد، وبسبب هيمنة طرز الذّوق الحاكمة، فنتخلى سنويًّا عن ملايين الأطنان من الثّياب الصّالحة للاستعمال ونسعى بنوعٍ من النّهم المَرَضيّ للحصول على الجديد من المنتجات وفي مقدمتها: الثياب والأدوات المنزليّة والأثاث ومبتكرات الأجهزة الإلكترونية.

 

لكونِ ما كنّا نملكهُ صار خارج مقاييس منظومة الموضة لهذا العام، تلك المقاييس التي تتواطأ عليها شركات إنتاج الثياب ومواد التجميل ودور الأزياء وينصاعُ لها التجّار والمسوّقون والفنّانون والمصمّمون ومُصنّعو الهواتف ومزيّنو الشّعر وتُروّج لهم الإعلانات المُبهرة والعروض التشويقيّة المغرية، إذن فهناك قدرة هائلة على التسويق لهذه المنتجات الخطرة والمتزلزلة، وفي المقابل هناك عطشٌ هائلٌ لدينا لأيّ جديد، وهو عطشٌ طبيعيٌّ غريزي.

 

كما أنّ الموضة تتجاوزُ كلّ هذه الماديّات لتعبّر أيضًا عن اتّخاذ قناعات جديدة وأحكام معيارية مبتكرة، وحتى التلفّظ ببعض التعابير التي لم تكن معهودة، فأصبحت تُمثّل غزوًا فكريًّا لعُقول الشّباب خاصّة، باعتبارهم أكبر فئة تتأثر بما تنشره وسائل الإعلام، ولكونهم في مرحلة عمريّة يغلب فيها الاندفاع والحماس لكلّ جديد، ومُرادهم في كل هذا مجاراة للآخرين باتّباع التيار، والتميز عمن تخلّفوا عن الرّكب، إمّا لأنهم لا يملكون الإمكانات الماديّة أو بُعد النّظر المزعوم للخروج من الزحام، شبابٌ وجدوا أنفسهم فجأة مُجتثّين من رحم هويّتهم وثقافتهم وسكونيّة واقعهم، ليُرمى بهم في دهاليز الموضة وفي أتُون الماركات والصيحات العبثيّة، أو في سكونيّة المدن الاستهلاكيّة المهمّشة والتي لم تستطع أن تحمي غرائزهم المتطلّعة لكلّ ما هو جديد.

 

وطبعًا من التّبعاتِ البديهيّة لهذا الاستهلاك، أن تجد النّاس مُنهمكُين في أعمالهم ليلاً نهارًا، لكسب المزيد من المال ليُشبعوا جشع الاستهلاك لديهم، والذي تُغذّيه أساليب الإعلان والترويج للسلع الجديدة فلا يتسنّى لهم التمتّع الحقيقي بأعمارهم المهدورة. كما تنعكس سلوكياتهم الاستهلاكيّة على علاقاتهم، فهوسُ الموضة هذا له تأثيرٌ نفسيٌّ عميق على سلوك البشر، بل قد يمتدّ هذا الأثر إلى تشكيل رؤية الإنسان للعالم وتشكيل صورة الشّخص لنفسه أمام العالم.

 

ففي عصرٍ خذله التطوّر الفاجع، بات مثلاً الحصول على علاقات جديدة أمرًا يسيرًا قد يحتاجُ منك كبسة زرّ واحدة، من خلال المواقع والإعلانات التي تُروّج للمواعدة وتعرض الصّفات المظهرية سواءً للنّساء أو الرجال طالبي الرّفقة، فهذا يبحثُ عنها شقراء في عقدها العشرين، تشغلُ وظيفةً مُعيّنة وهذه تبحثُ عنه طويل القامة، قويّ البنية فاحش الثّراء وهكذا… فصار بوسع المستهلك اختيار الشريك الذي يناسب رغباته الغرائزيّة ونزوعه الشكلي، ولكن السؤال الذي يطرحُ نفسه هو: إلى متى ستدوم تلك العلاقات؟ فإمكانية الحصول على الأفضل والأجمل متاحةٌ دائمًا، في أيّ لحظة وبنفس الطّريقة!

 

متابعة كل ما هو جديد في الأسواق ضروريٌّ أحيانًا للوصول إلى التّميز، لكن أن يبلغ ذلك درجة الهوس هو ما لا يمكنُ تقبّله
متابعة كل ما هو جديد في الأسواق ضروريٌّ أحيانًا للوصول إلى التّميز، لكن أن يبلغ ذلك درجة الهوس هو ما لا يمكنُ تقبّله
 

إنّ هذا الوضع صار أشبه بعروض السّوق الإلكترونية التي تفتحُ للمستهلكِ المجال لاقتناء كلّ جديدٍ بشريّ، بقسوةٍ باردة مثلما يستبدل المرء سيارة عتيقة أو هاتفًا قديم الطراز، فيختار شريكًا جديدًا له مُواصفات مظهريّة تتناسب والموضة، ممّا يُفضي إلى خلق التوتّر والخوف من فاجعة فقد الشّريك المعرّض لغوايات السوق، فتضطرب العلاقات التي تفتقر للألفة والحميميّة والتي يصعب العثور عليها لدى المعروضين بعضلاتهم المنتفخة وملابسهم الأنيقة وتسريحاتهم العصريّة، وحتّى وظائفهم المرموقة، فتنهار العلاقة الإنسانية لافتقادها إلى الحُنو والدّفء والرقّة والعطاء اللامشروط.

 

إنّ كل ما يترتّب في مُجتمعات ما بعد الحداثة هذه التي نعيش فيها، من ضغوطاتِ أخلاقيات السوق والمنافسة والنمط الاستهلاكي المفرط تخلقُ نمطًا بشريًّا باردًا، يميلُ إلى القسوة والأنانية والفردية المنعزلة وعدم الاكتراث لمشاعر الآخرين، يتخطّى إنسانيّته بخطواتٍ لينتقل إلى التعامل مع البشر من حوله كأشياء قابلة للاستبدال، باعتبارهم محض نفايات لا تلائم مقاييس السّوق ومغرياتها المتجدّدة وعروضها المتسارعة، فتتهاوى لديه القيم الإنسانية لتُفسح المجال للنفعيّة الروبوتيّة المجرّدة من كل قيمة.

 

ففي ظلّ هذه الرؤية الاستراتيجية وهي "رؤية استهلاكية" بشكلٍ تام يتبنّاها العديد من النّاس من حولك، ما هي رؤيتك أنت؟ كيف تتصرّف عندما ترى أمامك كل المفاهيم، والأبعاد، والمستويات المعنويّة والعاطفيّة والفكريّة التي تتضمنّها حقيقة البشريّة، في معرض الاستهلاك على ساحاتِ الموضة؟ وأنتَ المستهلِك الذي يتلقّى كل ما تم إعادة تدويره في المصانع والشّركات والفضائيات، ولا قدرة لك في خضمِ كلّ هذا إلاّ على الاختيار ما بين المنتجات المعروضة!

 

إنّ ممّا لا شكّ فيه، أنّ متابعة كل ما هو جديد في الأسواق ضروريٌّ أحيانًا للوصول إلى التّميز، لكن أن يبلغ ذلك درجة الهوس هو ما لا يمكنُ تقبّله، فالمظهر العام والشّكل الجميل يعكسان السّلوك الحضاري لأيّ شخصٍ كان، فمن يكون أنيقاً بين مجموعة من الناس من المُتوقّعِ أنْ يكون أيضًا أنيقًا في سلوكه مع الآخرين وحضاريًّا في حديثهِ عن أيّ موضوع أو قضيّة تُطرح للنّقاش، صاحب ذوقٍ رفيع في كلّ شيءٍ حتى عند انتقائه للعبارات، وهذا الإنسان لا شكّ وأن يكون محطّ إعجابٍ وثناء من الجميع للباقته وأناقته وتميزه بالجديد… لذا من الجيّد دومًا أن نكون على حذرٍ من أيّ مفهوم استهلاكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.