شعار قسم مدونات

هل قضت حروب المغول على فصيلة دمّ مجهولة؟! (2)

blogs نقل الدم

أثناء حروب المغول كان الموتُ في كلّ مكان وبكُلّ طريقة في ساحات القتال.. لكن لم يكُن الموتُ مُقتصرًا فقط على أرض المعركة، بل كان أغلب الضحايا يموتون بسبب الجروح والإصابات التي كانت تلحقُ بهم في الحروب.. والتي تُقدَّرُ أعدادهم بأضعاف أعداد الذين يموتون مُباشرةً! على الأرجح كانت الأسباب تعود إلى فقدانهم الكثير من الدماء، التي لم تكُن هُناك طريقةً لتعويضها وقتها!

في القرن الرابع عشر، وبعد أن انتهت حروب المغول، بدأ يظهرُ ما يُسمى بعصر النهضة في أوروبا، حيثُ بدأت حركة الثقافة تزدهر، وظهر الكثير من الأدباء والمُثقفين أمثال "ليوناردو دافينشي" و"مايكل أنجلو"، وبدأ كذلك علم الطبّ في الازدهار.. فبدأ الأطباء في مُحاولاتٍ لإيجاد الحلول، وكان أكثر ما يشغلُ الأطبَّاء وقتها هو إيجاد حلٍّ لمشكلة أولئك المُصابين الذين يموتون بسبب نزف الدمّ، كان لا بُد من إيجاد طريقة لاستبدال ما يفقده الجسم من الدماء أثناء العمليات الجراحية أو حتى جراء الحوادث المُختلفة.. كان كلّ طبيبٍ يحلُمُ بتلك اللحظة التي سيستطيعُ فيها أن يضُخّ إلى أوردة مرضاه ما يكفي من الدماء لإنقاذهم من الموت.. لكن حتى فترةٍ طويلة، لم تتجاوز تلك الأفكار حدّ عقول الأطباء!!

وفي عام 1665، قام الطبيب الإنجليزي "ريتشارد لوار" بأوّل مُحاولةٍ لنقل الدم بين الحيوانات، حيثُ قام بسحب كمية كبيرة من دماء كلب، حتى كاد الكلب أن يموت على إثرها، ثم قام بعدها بحقنه بكمية كافية من دمّ كلبٍ آخر، مما جعل الكلب يتعافى من جديد.. مما يعني إمكانية نجاح العملية.. قام بعدها بإعادة التجربة مرَّات عدة، وكان النجاح باهرًا.. لكن يبقى نجاحها مُقتصِرًا على الحيوانات!

وفي عام 1667، قام الطبيب الفرنسي "جان باتيست دينيس" بأول مُحاولةٍ لنقل الدمّ إلى البشر، حيثُ استخدم كمية صغيرة من دماء الأغنام التي حقنها في أوردة صبيّ 15 عامًا، واستطاع هذا الصبيّ النجاة.. ثم أعاد الطبيب تلك التجربة مرَّةً أخرى على أحد العمال، واستطاع النجاة هو الآخر.. لكن يبدو أنّ النجاة لم تكن إلا بسبب كميات الدمّ الصغيرة التي استخدمها "دينيس".

بسبب الطبيب النمساوي "كارل لاندشتاينر" بات لدى الأطباء الآن الدليل الكامل لعمليات نقل الدم، أصبحوا الآن يعرفون طريقة اختيار فئة الدم الصحيحة لكلّ مريض

قام "دينيس" بنفس تلك التجربة مرَّةً أخرى، لكن هذه المرَّة كان مُستخدمًا كمية كبيرة من دماء عجل، ظنًّا منه أن العملية ستنجح مرَّةً أخرى، لكن حدثَ شيءٌ غريب! بدأ الرجل بالتعرق والقيء، وبدا لون بوله مُتغيِّرًا.. قبل أن يقوم الطبيب بحقنِهِ بدفعة دماء أخرى، ليموت الرجل على الفور! كانت تلك الحادثة كفيلة بإنهاء أيّ فكرة يُمكنُ أن تتحدَّث عن هذا الموضوع.. واتَّهمَت زوجةُ الرجل الطبيبَ "دينيس" بالتسبب في وفاة زوجها.. قبل أن يتم الكشف عن سبب وفاة الرجل الحقيقي، حيثُ مات مُتسممًا بالزرنيخ.. لكن على الرغم من هذا، قررت فرنسا حذر تلك العمليات في عام 1670، وفي نفس العام، قرر البرلمان البريطاني حذرها أيضًا، حيثُ اعتبر أنّ عمليات نقل الدم تلك تقع ضمن منطقة عدم الأمان! كانت تلك النكبة كافية لتعطيل البحث في هذا المجال طيلة قرنٍ ونصف، حيثُ اعتبر البعض أنه لا مجال للنجاح في هذه العملية أبدًا.

 

وفي القرن التاسع عشر، كان هُناك طبيب بريطاني يُدعى "جيمس بلونديل" يعملُ في مجال الولادة، حيثُ لاحظ أنَّ مُشكلته الأكبر في التعامل مع الولادة، هي كميات الدم التي تنزفها الأم أثناء وبعد الولاده، والتي في كثيرٍ من الأحيان قد تُؤدي إلى وفاتها.. قام "جيمس" بعمل بعض الأبحاث التي تخُصّ هذا الشأن، أملًا أن يجد حلًّا لتلك المُعضلة.

وفي عام 1817، وأثناء ما كان "جيمس" يقوم كالعادة بتوليد إحدى مريضاته، أدّت عملية الولادة إلى نزيف حاد، فقدت المريضة على إثره الكثير من الدم، وعلى الرغم من استطاعته إيقاف النزيف، إلا أنه لم يستطع تعويض الدم المفقود، ليحدُثَ ما كان مُتوقَّع، وتموت الأمّ أمام عينيه.. قرر "جيمس" أن يُعيد فتح هذا الموضوع من جديد.. لكن كان قراره هذه المرة مُختلفًا، حيثُ قرر أن يكون الدم المُنتقل إلى المريض دماءً بشرية.

وفي عام 1818، قام بتصميم جهاز يعمل على سحب الدم، ثم إعادة حقنه إلى المرضى مرَّةً أخرى.. وبعد أن قام بتجربة هذا الجهاز على الكلاب، جاء الوقتُ لتجربته على البشر، ولأوّل مرة منذُ قرابة قرنٍ ونصف، يحاولُ أحدهم إعادة إحياء تجربة نقل الدمّ إلى البشر مرّةً أخرى.. لكن لم يكُن الأمر سهلًا.. فلم يكُن أحدُهم ليرضى أن تتم عليه تجربة سيئة السُّمعة كتلك!

كان على "جيمس" أن يجد أشخاصًا ميؤوسًا من نجاتهم، وبعد بحثٍ وجد أحد مرضى التصمُّغ الكبدي أصابهُ نزيفٌ فقد على إثرِه كمية من كبيرة من الدم، ولا يُمكنه العيش بأيّ حال من الأحوال.. عرضَ "جيمس" أن يُجرب جهازهُ الجديد على هذا المريض، الذي فقد أهله الأمل في حياته.. وبالفعل، جمع جيمس مقدار 400 مل من دماءٍ بعض أقارب المريض، ثم أعاد حقنها إلى هذا المريض مُستخدمًا جهازه.. بدت النتائج مُبهرة، فقد تحسَّنت حالةُ المريض سريعًا، واستمرّ هذا التحسُّن لمدَّة 40 دقيقة، لكن سُرعان ما بدأت حالةُ المريض في التدهور، ويموت بعد 56 ساعة من إجراء التجربة!

على الرغم من فشل التجربة الأولى التي أجراها "جيمس".. إلا أنها لم تكُن داعيًا كبيرًا لإيقاف تلك العمليات.. خصوصًا وأن التجربة أجريت على شخصٍ كان ميِّتًا على كلّ حالة! أعاد السيد "جيمس" التجربةَ مرَّةً أخرى.. وهذه المرة على سيدة كانت تنزف أثناء الولادة، مما يعني أنها هي الأخرى مُعرَّضةً للموت في كلّ الأحوال.. لكن "جيمس" هذه المرَّة استخدم دماءً من زوجها.. لكن مُجددًا لم تنجح.

استمرّ في إعادة التجربة لعشرات المرات حتى عام 1830، وفي كلّ مرة يستخدم أشخاصًا لا حيلة في إبقائهم أحياء، حتى لا تتم إيقاف تجاربه.. وبالفعل، ينجح "جيمس" في إنقاذ 4 حالات كانوا جميعًا على وشك الموت، 4 أشخاص كانوا في عداد الأموات قبل أن يتسبب "جيمس" في إنقاذهم.. وعلى الرغم من كون هذه النسبة لا تتعدَّى ربع عدد الضحايا، إلا أنها تُعدُّ نجاحًا باهرًا.

كان هذا النجاح هو البداية الحقيقية لعودة الأصوات التي تُنادي باعتبار عمليات نقل الدم بين البشر طريقة طبية مُصرح بها.. وبالفعل، بدأ الأطباء بعد ذلك في تنفيذ عمليات نقل الدم، حتى أنّه تم نقل دمّ كامل لشخص مريض بالهيموفيليا عام 1840.. لكن بالرغم من هذا النجاح العظيم، ظلّت هُناك مُشكلة كبيرة غير معروفة.. لماذا لا تنجح كلّ عمليات نقل الدم؟ لماذا يموت الكثيرُ من المرضى عقب نقل الدم لهم مُباشرةً؟! حدّ هذا الأمر من رواج تلك العمليات، حيثُ كانت مُقتصرةً فقط على الحالات الميؤوس منها.. كان "جيمس" قد اكتشف طريقةً لنقل الدم.. لكنه جهل أمرًا في غاية البساطة، لم يكُن يعلم أن البشر يمتلكون أنواعًا مُختلفة من الدمّ، ولا يُمكنُ الخلطُ بينها، مما أدى إلى وفاة الكثير من المرضى!

كان نجاح جيمس بلونديل في إنقاذ حياة بعض الأشخاص الضحايا هو البداية الحقيقية لعودة الأصوات التي تُنادي باعتبار عمليات نقل الدم بين البشر طريقة طبية مُصرح بها
كان نجاح جيمس بلونديل في إنقاذ حياة بعض الأشخاص الضحايا هو البداية الحقيقية لعودة الأصوات التي تُنادي باعتبار عمليات نقل الدم بين البشر طريقة طبية مُصرح بها
 

وفي عام 1901، قام الطبيب النمساوي "كارل لاندشتاينر" باكتشافٍ من شأنه أن يُغير علم الطب إلى الأبد.. استحقَّ على إثره الفوز بجائزة نوبل عام 1930.. حيث اكتشف أن الدم البشريّ يتكون من ثلاثة فئات مُختلفة، أسماها حينها “A – B – C” ثم بعدها إعيدت تسمية الفئة “C” بالفئة “O”.. قبل أن يقوم العُلماء بعدها بسنوات باكتشاف فئة أخرى تُدعى “AB”..

كان هذا الاكتشاف عظيمًا بكلّ المقاييس، حيثُ تمكن العلماء من دراسة فصائل الدمَ بدقَّة مُتناهية، مما أدَّى إلى معرفة ذلك المجهول الذي كان حاجزًا بين النجاح الكامل، بات لدى الأطباء الآن الدليل الكامل لعمليات نقل الدم، أصبحوا الآن يعرفون طريقة اختيار فئة الدم الصحيحة لكلّ مريض.. لم يتوقَّف الأمر عند تلك النقطة، بل قاموا أيضًا ببناء بنوك الدم، التي تهدف إلى الإبقاء على الدمّ سليمًا في حين عدم الحاجة إليه.

كان العالمُ يسيرُ مُتسلِّحًا بالأدلة والتجارب العلمية في هذا المجال.. ووُضعت الكثير من التصنيفات والأبحاث التي تهتم بفصائل الدمّ.. وحتى قُرابة نصف قرن.. كان الجميع يظُنَّ أنَّ العلم قد أحكَمَ سيطرته على مجال الدم! وفي عام 1952.. وفي مدينة مومباي بالهند، تظهر أغرب حالة دماءٍ في العالم.. فصيلة أخرى لا تقبل نقل الدمّ من أيٍّ من الفصائل الأربعة!؟ الأمر الذي جعل الجميع في حالة ذهولٍ مما يحدُث، لا يُمكن تصنيف هذه الدماء.. فهل نحنُ أمام فصيلةٍ مجهولة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.