شعار قسم مدونات

حتى لا نلعن الماضي!

blogs حزن تعاسة

"مَن يحملُ الماضي تتعثرُ خُطاه"

– (نجيب محفوظ)

في بداية كتابة هذا المقال بادرت نفسي بسؤالٍ طالما أرقني، وسرق النوم من عيني كل ليلة أستسلم فيها إلى الوسادة، وكأن الانفراد بالنفس سلطانٌ شديدٌ يحاسبها حسابًا عسيرًا: هل سأملك من الشجاعة ما يكفي للخوض في فِكَر هذا الموضوع جملة دونما أن أواري نفسي بين الكلمات وفي هوامش الجمل كما أفعل كل مرة أُبهِمُ فيها المعنى المُلصق بي تارة، وأخرى أرمزه رمزًا بعيدًا لا يهتدي إليه أحد، فلا يفطن من الناس إلا قلمي أنني أعبر عن صوت نفسي تحت هذا العنوان، أو في الفقرة الرابعة من مقال ما طويل لم ينتهِ منه إلا القليلون؟" فكانت إجابتي نعم، ونعم جدًا؛ فكما قال الأستاذ نجيب محفوظ: "الخوف لا يمنع من الموت ولكنّه يمنع من الحياة."

وماذا تفيد الكتابة إن لم تكُن صورة حقيقية لمعنى حبيس أغوار النفس وبواطنها ولا يقوى اللسان على التلفُّظِ به؟ ألسنا نكتب لنعبر عن أنفسنا أولًا ونقول للعالم كله: "نحن هنا، باقون، صامدون، رغم ما يطولنا من معاناة وألم." أليس لبعض النصوص قدسية خاصة -لا لشيء إلا- لأن كاتبيها قد أنطقوا القلم الصراحة، وأبعدوه عن التورية والمجاز المرسل البعيد؟ أليست الكتابة ثورة على كل شيء لا يرضينا، كل شيءٍ يُخل بميزان العدل، وهي مقاومة صريحة أيضًا، وإعلان استعداد للمستقبل؟

الماضي صفحة لا تُمزَق مهما ادعينا ذلك، أو حاولنا التظاهر به، والذاكرة لا تنسى، ولا يمكن محو ما مر عليها من أحداث، قد ننشغل بالحاضر أو يأخذنا المستقبل بعيدًا، لكننا ورغم الهِوة العظيمة بين ما نحن عليه الآن وما كنا فيه في الماضي، نسترجع أحداثه ونتخيلها واقعًا معيشًا؛ إذ الماضي هو الحاضر وهو المستقبل أيضًا ولا يلزم الاثنين ليكونا الأول حقيقة إلا مرور الوقت وتعاقب السنون والأشهر والأيام. 

لزيارة الماضي ثمنٌ باهظ من القسوة والألم والمعاناة، والشعور السيء، والاستنكار، والرغبة في الانتقام، المصحوبة دائمًا بالشر والكراهية خاصة وإن كان الثمن الذي دفعناه في الحاضر من هناء الروح

تقول فلسفة العقل أنّ الماضي هو قوة الزمن الباقية، وجاذبية الوقت المعمرة، لأن الأحداث الزمنية كلها ترد إليه بمرور الوقت، حياتنا التي نعيش، ما هي إلا مجموعة من ذكريات الماضي، الطفولة، المدرسة، الأصدقاء، العمل، الماضي هو سيد الموقف، ومن لا يجيد قراءة ماضيه لن يعرف كيف يُسير حاضره أو يبني مستقبله، الماضي هو مفتاح اللعبة يا سادة، دعونا إليه نعود.

للماضي سكانه وزواره، والقلب دائمًا ما يختلف إليه سرًا؛ ليعاود ذكرى ماضي سيء، أو حسن، أو ذكرى حبٍ ضائع، لم تتصل به أسباب الحياة فقضى الموت عليه، وذُهب به، ولزيارة الماضي ثمنٌ باهظ من القسوة والألم والمعاناة، والشعور السيء، والاستنكار، والرغبة في الانتقام، المصحوبة دائمًا بالشر والكراهية خاصة وإن كان الثمن الذي دفعناه في الحاضر من هناء الروح، وطفولة القلب وسعادته كبيرًا، من أجل من لا يستحق، الماضي غابة من الأشواك، وبحر من الرصاص، وسماءٌ من النار، الماضي دفتر مهترئ لكنه مؤلم، دواء حسن النتيجة لكنه مر، والعقل رغم إيمانه بصرف النظر عنه؛ لاغتنام الحاضر وبناء المستقبل، إلا أنه يختلس بُرهًا من الزمن ليعود إليه؛ إذ الماضي مزيج غريب رغم ما ذكرته فيه وما أظهرته من سيئات إلا إنه ذو لذة أخاذة ليست للأشخاص وإنما للشعور، وللحالة.

للماضي أشكالٌ وألوانٌ متباينة، منها ماضي فكري، يؤرخ لنضج العقل، ومراحل نموه، ومحطات تطوره، يرسم لك صورة جديدة عن نفسك كل فترة، يحفظ المواقف والأحداث التي مررت بها، وماضي عاطفي يسجل علاقاتنا بالآخرين، فيه دفتر مشاعرنا، سعادتنا، وحزننا، جراحنا، وكسورنا، المجبورة منها والمؤلِمة، وما بين هذا وذاك تدور حياتنا بكل تفاصيلها، من ماضي أليم إلى أشد ألمًا، من عِبرة إلى عِبَر.

أما الماضي الفكري ففيه بداياتي، من الكلمات المتلعثمة، والخط السيء، والأفق الضيق، والعقل الذي لا يستسيغ النحو، وينفر من القراءة والكتابة، ويميل إلى اللهو واللعب، إلى الكلمات المنظومة والخط الحسن، والأفق الواسع، والملكة القوية، والانغماس في اللُّغة العربية، وحب العزلة، والانفراد بالكتب والأقلام، الرحلة كاملة، من تابع أعمى، فرد داخل القطيع، إلى عقل لا يقبل إلا الحجة القوية، والكلمة الحق الراسخة العلية، أتذكر نفسي عندما كنت أردد ما يقول معلمي كالببغاء، وأنا فاخرٌ به، سعيدٌ كأن الدنيا بين يدي، أتذكر اختلاسي جملة لهذا أو ذاك من الكُتّاب والمفكرين ونشرها على حسابي في فيسبوك، من مترددٍ خطّاء، إلى ثابت متماسك، يحسب لزلة القدم ألف حساب، مِن لاهٍ يجري وراء مدح الناس ويعيش على ثنائهم إلى منزوٍ لا يأخذه زيف الاجتماعية الكاذب، ولا يشغله مدح الناس وتلونهم.

وماضي عاطفي، فيه السذاجة والاندفاع، والمراهقة وأيام الصِبا، والأحلام الوردية، والخيالات الوهمية، والعبث، والعاطفة التي لا تعرف السبيل، وتتنقل يمين يسار، وتهبط وتطير وتحتار، وتخسر وتفوز وتنهار، وتدفع الثمن وتذوق المر، وتعيش كالمحترق على النار، إلى العاطفة الحسنة، القويمة، التي لا يهين عليها أن تنطق كلمة حب تقليدية عابرة، أو تغمس النفس في كلام فارغ هو إلى اللهو أقرب منه إلى الجد، نفس تعرف كيف توصف الحب وتضع له معنى واضح، لا هو بعيد عنها ولا هي تنكره ولكن الوقت الصحيح لم يأتِ بعد.

في الماضي دروسًا لا تعلمنا المدرسة إياها، من قراءة الماضي نتعلم كيف ننهض بعد عثرةٍ، كيف نميز الخبيث والطيب، كيف لا نُلدغ مِنْ جُحرٍ مرتين، كيف نسير إلى المستقبل في الطريق الصحيح
في الماضي دروسًا لا تعلمنا المدرسة إياها، من قراءة الماضي نتعلم كيف ننهض بعد عثرةٍ، كيف نميز الخبيث والطيب، كيف لا نُلدغ مِنْ جُحرٍ مرتين، كيف نسير إلى المستقبل في الطريق الصحيح
 

قال المفكرين في الماضي الكثير، وأسهب الكُتاب في خط النصائح ومنها ما يقول الأستاذ نجيب محفوظ: "الماضي الذي يتوارى بمكرٍ أحيانًا كاللصٍ ولكنّه لا يموت، ثم يُبعث بغير دعوة ولا رغبة". وصفٌ على ما فيه من بساطة ظاهرة، إلا أن فلسفته بعيدة، عميقة، تنم عن نظرة لم يكن غير نجيب ليهتدي إليها، وإنها لتكاد أن تلخص ما سبق وخطه قلمي في هذا الموضوع مجموعًا. ويقول في موضع آخر: "لو كان الماضى قطعةً من المكان المحسوس لوليت عنه فرارًا، ولكنّه يتبعنى كظلى، ويكون حيثما أكون، فلا مناص مِنْ أن ألقاه وجهًا لوجه بعينٍ غير مُختلِجة وقلبٍ ثابِت". هنا يكشف نجيب على لسان أحد شخصياته المُخلّدة في الذاكرة، عن الخوف من الماضي، ولكنه خوف لا خلاص منه إلا بالمواجهة.

إن أسوأ ما في الماضي، أنه غير عادل؛ إذ لا يتكبد مرارته إلا الوفي المخلص، الذي دفع من ذاكرته وراحة باله ثمنًا للعيش فيه حاضرًا، وأنى للحي أن يتحمل مرارة الماضي؟ وهو الذي اتكأ عليه كما يتكئ الرضيع على قدم أمه، لكنه لم يجد إلا النوائب والأشواك، وأما الذين يتلونون من لا يجهدهم الكذب والخداع، فلا يلقون له بالًا ولا يحسبون لفعلتهم أي عاقبة، ولكن مردودهم كبير، وهو إلى السوء أقرب من أي شيء آخر.

ورغم هذا كله، إلا إن في الماضي دروسًا لا تعلمنا المدرسة إياها، من قراءة الماضي نتعلم كيف ننهض بعد عثرةٍ، كيف نميز الخبيث والطيب، كيف لا نُلدغ مِنْ جُحرٍ مرتين، كيف نسير إلى المستقبل في الطريق الصحيح، كيف نختار أصدقائنا، كيف نصون كرامتنا من مخادع، كيف نحمي قلوبنا من لصوص الكلام المعسول، في الماضي نتعلم كل خفي، لا تتناقله الألسنة، ولا يقوله إلا الكتاب، لكن في الوقت ذاته، علينا ألا نبكي على الأطلال، وألا نحزن لأمر أكثر مما ينبغي، ألا يؤلمنا فراق هذا، أو يُضعفنا خصام ذاك، لنا طريقنا المحدد في الأرض، الدرس الأهم، ألا تتمنى رجوع الراحل الذي لم تقهره الظروف لذلك، ألا تجعله يستحوذ على مساحة ولو قليلة من حاضرك أو مستقبلك، أن تكون أنت لأنه أنت لا غير ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.