شعار قسم مدونات

كيف صورت رواية "الحي اللاتيني" الإنسان العربي بأوروبا؟

blogs الحي اللاتيني

إن المهتمين بالأدب يعلمون أن لكل عمل أدبي رسالة معينة أو هدف أسمى، يبتغيه الكاتب من وراء ما كتبه، وقد تكون هذه الرسالة اجتماعية، أو تاريخية، أو فلسفية، وتكون موافقة للحياة التي يعيشها مجتمعه، وأسعى في هذه الكلمات أن أقدم الصورة التي يقدمها الروائي "سهيل ادريس" في روايته "الحي اللاتيني"، بنوع من الإيجاز دون التفصيل، وبتعدد التأويلات التي يمكن أن نحمل عليها هذه الرواية، فإننا سنقتصر على جانب أحسبه بالمهيمن فيها، وذلك ببيان صورة الإنسان العربي في أوروبا عامة، وفرنسا خاصة.

لربما كان من الإمكان أن نقدم تلخيصا للرواية وندع أنفسنا من تأويل معانيها، ولكننا رأينا أن تلخيصها موجود ومعلوم، ومسألة أخرى هي أني لما أخذت الرواية وقرأت ما كتب على غلافها من آراء لأدباء كبار، وخاصة رأي الأستاذ نجيب محفوظ، قائلا: "الحي اللاتيني معلم من معالم الرواية العربية الحديثة"، فقد حملني ذلك على قراءة الرواية والنظر فيها بدقة، حتى اتوقف على صحة ما قاله النقاد في الرواية، وحقا فذلك ما وجدته بلا شك، فهي رواية بأسلوب بديع رصين، تجعلك تتبع أحداثها، وتستهويك لمتابعتها حرفا حرفا، وكلمة كلمة، خوفا من ضياع دلالة ما، أو صورة من الصور، وبعد إكمالها، تبين لنا أن سهيل ادريس يقدم لنا صورة عن الإنسان العربي بأوروبا، من حيث طرق العيش وأساسيات التعامل مع المحيط الجديد والانسجام معه، إنها نوع من المقارنة التقابلية للإنسان العربي عامة، والمثقف خاصة في بلده وخارج بلده؛ فالرواية ذات بعد اجتماعي محض، وسأدلل على هذا البعد بمقاطع من الرواية فيما سيأتي.

إذا كان النقد بتعبير طه حسين، هو أن يشعر الناقد بنوع من الحرية في أداء واجبه على أكمل وجه،، فإننا لا ننكر هذا القول، ويجب أن نحسب أنفسنا أحرارا أثناء الانتقاد، دون حصر النقد في ثنائية المدح والهجاء؛ لأن ذلك مناف للصفة العلمية، وإذا كان العمل الأدبي ملكا للغير، فهذا لا يمنعنا أن نتحرر في النقد ولكن بشروط علمية، وأنقل قولا للناقدة Leila perrone moisee نقلا من كتاب أزارا قائلة: "الناقد شخص يتدخل في ملكية الغير، وله فيها- لمدة معينة- حق الاستغلال، وهذا يفترض احترام بعض القواعد التي يكمن أبسطها في الاعتراف بحدود الملكية وحق المالك وواجبات غير المالك".

أسست لنا الرواية لصورة إنسان في الغرب، هي صورة إنسان ضاقت عليه الحياة بما رحبت، فضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ إلا إلى الحي اللاتيني كرمز للديار الأوربية

لذلك فواجبي هو عدم التكلف في تحميل الراوية معنى لا تحمله، وتجنب جلدها وتعنيفيها، دون ادعاء جازم لما سنسفر عليه، فدائما حقيقة العلم كائنة في التشبث بمبدأ الشك، والشعور بالنقص، ولك أيها القارئ أن تشك، وأن تعتبر ما أحدثك به ناقصا، وآن لنا أن نقدم الصورة التي تحملها رواية "الحي اللاتيني" عن الإنسان العربي في الديار الأوربية، ونعتذر منك أيها القارئ، فقد جعلناك تنتظر ما ذكرناه في عنوان هذه المقالة بشغف، واستيقن أنك ستستمر في القراءة رغم الإطالة التي أبعدتك عن صورة الإنسان العربي بأوروبا في رواية الحي اللاتيني.

يكفي للناظر في رواية "الحي اللاتيني" أن يفهم هذه النقطة التي أود الحديث عنها؛ إذ سأبرز صورة الإنسان العربي في فرنسا ومدنها، والتي مثلها سهيل إدريس في شخصيات مثقفة، ذهبت لاستكمال مسارها العلمي هناك، إما بأخذ شهادات، أو إنجاز أطروحات الدكتوراه، أو في مهمة من المهام، ويذهب إليها المثقفون من الدول العربية، وأوان هجرتهم لا بد لهم أن ينسجموا مع الثقافة الفرنسية ومحيطها، وعاداتها، وأناسها، والتأقلم مع مناحي شتى، حتى يتأتى لهم تجاوز الإخفاقات التي لازمتهم في بلادهم، واتخاذ تجارب أخرى لهم في حياتهم ومعايشتها، وندلل على هذا بقول الكاتب: "ينبغي لك أن تبلو الحياة وتجربها في أعمق مجالاتها، أ فيكون إطار الحياة في شرقك ذاك، أضيق من أن تُجدي فيه هذه التجارب؟".

فممارسة الحياة بأنواعها في البلد العربي أمر قاس وشديد ومهلك، ولكن ممارستها في أوروبا فيها نوع من الحرية والاطمئنان، والسماحة، وهذه صورة تنبئنا بأن العربي لم يجد في وطنه الملجأ لممارسة الحياة بنوع من التفاني دون أغلال واعتقالات، وإخفاقات ومذلات، فبدت لسهيل أن العربي خارج بلده، وجد ما ابتغاه من التعمق في مجالات الحياة، فاستحسن ذلك وفضله على المهانة والأردان التي أمضاها كسنوات عجاف ببلده، فلم تتوافر له ظروف العيش كإنسان له حقوق وعليه واجبات.

 

فأسست لنا الرواية لصورة إنسان في الغرب، هي صورة إنسان ضاقت عليه الحياة بما رحبت، فضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ إلا إلى الحي اللاتيني كرمز للديار الأوربية، فوسعت عليه الحياة بما رحبت، وما يؤكد هذا قول سهيل: "كأنهم هم القوا أثقال الرصانة التي كانت تُرهق اكتافهم في بلادهم، وشعروا شعورا عميقا بأنهم مدعوون إلى أن يسوقوا في باريس حياة منطلقة لا يحد من حريتها قيد، فاستجابوا لهذه الدعوة بكل ذرة من ذرات وجودهم، وخلفوا وراءهم ماضيهم".  فكانت هذه نقطة تصوير أساسها تحرر الإنسان العربي في أوربا من قيود المجتمع التي قيدته وكبدته، فتأتى له تفريغ مكبوتاته والاستجابة لنزواته وشهواته، وعواطفه.

وتقدم لنا الرواية أيضا جانبا آخر، يتأسس على العلاقة والصداقة، إنها صورة عن العلاقة الجامعة بينن الإنسان العربي والجنس اللطيف، أو كما يسميها أحد أصدقائي بالفنون الجميلة، وبالأحرى فإن الرواية تبين لنا علاقة الشاب العربي بالمرأة في وطنه، وخارج وطنه، فهي علاقة مبنية على الحرمان المنتصب والحب المنحرف في وطنه، وهي عكس هذا عند الغربيين فهي صداقات ليست حبا منحرفا، ولا ذخرا من العاطفة المكبوتة، هذا يبين انسجام العربي مع هذا النسق العلائقي بأوروبا وتحبيبه، وفي الرواية أدلة على هذه الصداقات التي أقامها المثقف العربي، ولا يتسع المقام لذكرها وبيانها والتفصيل فيها، وإن أساس هذه العلاقات عند الإنسان العربي، قائمة على نية تعويض ما مضى وفاته من الحرمان العاطفي، والعاطفة المخبوءة.

يتطلب تحقيق الذات لدى الشباب  النضال والمطالبة والثورة داخل بلادهم، ولكن في أوروبا وجدوا ذلك سهلا ومتأتيا لا مشقة فيه ولا إجهاض، بعد أن كانوا محرومين من ذلك في وطنهم
يتطلب تحقيق الذات لدى الشباب  النضال والمطالبة والثورة داخل بلادهم، ولكن في أوروبا وجدوا ذلك سهلا ومتأتيا لا مشقة فيه ولا إجهاض، بعد أن كانوا محرومين من ذلك في وطنهم
 

فالأساس أن صداقته بأوروبا مخالفة لصداقته مع المرأة هناك في وطنه، فهي علاقة رباطها تقديس الجسد، لا تقديس الحب، وتقديس خوف وحذر، "فأصبحت المرأة العربية تخاف الرجل، وتخاف الكائن الذي ينبغي أن تثق به، لأنها تخاف الجسد الذي ينبغي أن تحبه"، وقال سهيل: "إن تللك الصداقات لا تقوم حقا على أساس من المحبة الخالصة، إنما تقوم على أساس الحرمان المتبادل، الحرمان المنتصب حدا فاصلا بين المرأة والرجل…يفرغ كلٌّ على رفيقه مذخور قلبه من العاطفة المكبوتة، فيحسب أنها الصداقة الخالصة وهي في الحق حب منحرف…أما هنا في الغرب، فإن الصداقة… ليست حبا مكبوتا أصابه الانحراف".

والنص لا يحتاج إلى شرح، فهو قد أبان نفسه بنفسه، فصورت لنا الرواية للعلائق الجامعة بين الشاب العربي والمرأة الأجنبية في الديار الأوربية. وقد صورت لنا الرواية أيضا أن العربي في أوروبا يسعى إلى البحث عن إبراز الذات، وتحقيق ما لمم يجده في موطنه الأصلي من ترف العيش، والاستمتاع بالحياة والتعمق في مجالاتها، والتأنس بمظاهرها، فقد وجد في أوروبا نوعا من الحرية، التي جعلته يبرز ذاته، ويحقق مطالبها، ويقول سهيل: "إننا نحن جميعا، نحن الشبان العرب، ضائعون يفتشون عن ذواتهم بأنفسهم، ولا بد أن نرتكب كثيرا من الحماقات قبل أن نجد أنفسنا".

فتحقيق ذواتهم يطلب منهم النضال والمطالبة والثورة داخل بلادهم، ولكن في أوروبا وجدوا ذلك سهلا ومتأتيا لا مشقة فيه ولا إجهاض، بعد أن كانوا محرومين من ذلك في وطنهم، ما يؤكد هذا قول الروائي: "ألا تعتقد أن كثيرين من شبابنا العربي، هنا وفي الوطن، محرومون من استغلال أسمى إمكانياتهم". وعليه فإننا الرواية تصور لنا العربي في أوربا إلى أنه أصبح متحررا، وأنشأ علاقة صداقات جديدة الأساس منها الاستجابة للنزوات والشهوات التي حرم منها، وإنه يسعى أيضا إلى البحث عن ذاته، وتحقيق مبتغاها ومطلبها، واستغلال امكانياته بشكل أسمى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.